نهضت من سريرها
أعدت لنفسها القهوة
سرحت بفكرها طويلاً،
وبدأت تقارن بين حياتها الجديدة والسابقة
أول المقارنات كانت بين غرفتها الصغيرة الضيقة هنا وبين بيت أهلها الواسع الذي نشأت فيه وغرفتها الكبيرة التي تقع في الطابق الأعلى منه خزانة ملابسها العامرة بعطورها ومكياجها ومجوهراتها ، وحقيبتها الصغيرة التي حشرت فيها غيارين فقط، بين صوت أخوتها وأخواتها هناك، وصمت الجدران العميق هنا.
أنهت قهوتها، وبدلت ملابسها، وخرجت إلى الشارع للمرة الأولى بمفردها في هذه المدينة، الوقت كان مبكراً، ولم يأت أحد من الذين كانوا معها بالأمس، وهي تشعر بالجوع، اتجهت للمطعم الأقرب،
واكتشفت لأول مرة أيضاً أن كوروسون الجبنة البارد الذي أكلته للتو هو بخمسة أضعاف قيمته التي كانت تدفعها هناك
أرادت أن تتبضع بعض ما ينقصها ،
وفي البقالة بالكاد وجدت بعض ما تريد.. هنا أتتها غصة لم تستطع إخفاءها فعبرت عنها بدمعة صامتة
فهي لأول مرة تكون مسؤولة عن هذه الأشياء، وكانت تكتفي هي وأمها بكتابتها كرسالة على جوال والدها
عادت إلى غرفتها بخطى متثاقلة
ولم تلبث حتى أتاها فريق من الرجال والنساء، ليشرحوا لها كيف سيكون وضعها، وأخبرها المترجم الذي كان معهم بما يلي:
هذه أرقام مجموعة من الجمعيات الخيرية
ستحصلين على دعم شهري لمدة عام فقط
تذكرة الطيران التي أتيت بها مسجلة عليك كدين يجب أن يتم سداده خلال عام، وإلا فإنه سيصبح ديناً بفوائد
يجب أن تبدأي البحث عن عمل، وإذا لم يحصل ذلك، سيتم نقلك إلى مقار إيواء اللاجئين!!
لا تتحمل الدولة رسوم دراستك الجامعية!!
المواصلات وفواتير الخدمات الأخرى لا تتحملها عنك الدولة!!
غادروا، وبدأت تقلب تلك الأوراق، وتقلب أفكارها، كيف ستتعلم؟
كيف ستحصل على وظيفة؟ ومن أين؟
في الأشهر الأولى لم تكن تعاني كثيراً، فوسائل الإعلام وبعض الجمعيات كانت تتواصل معها بشكل متقطع، ثم اختفوا عنها، ولم تعد تعرف أحداً إلا السيدة من مكتب اللاجئين التي تذهب إليها كل شهر لأخذ الإعانة، والمحامية التي تتصل عليها بين فترة وأخرى ولا تكاد ترد
حاولت أن تجد وظيفة، أية وظيفة، ولكنها لم تجد بسبب حاجز اللغة، حاولت تعلم اللغة ولكن رسوم الدراسة ستلتهم نصف إعانتها، وقليلاً قليلاً بدأ الوقت ينفذ، والهموم تزداد.
مقابل كل ذلك، اكتشفت أنها أصبحت هنا مشغولة جداً بنفسها
لم يعد لديها وقت للانشغال بتلك المعاني المجردة التي كانت تشغل تفكيرها كل يوم وهي مستلقية على سريرها في منزل أهلها (معاني الحرية المساواة العدل ، الحب
كل ذلك اختفى من تفكيرها، حتى مجرد التفكير في شراء ملابس جديدة ، أو الذهاب للترفيه أصبح مجرد حلم
مرت الأيام، وكل يوم أسوأ من سابقه، أدركت بأن هنا لا يشبه هناك، فكرت في العودة إلى وطنها وإلى أهلها وإلى حضن أمها، لكنها تذكَّرت أنها أعلنت إلحادها، وأن أهلها أعلنوا براءتهم منها..
بكت كثيراً ، واشتاقت كثيراً وضاعت أكثر وبعد أن انقطعت عنها الإعانات وغاب الاهتمام وانطفأت الفلاشات
باتت كرتًا محروقًا،
وأصبحت تدفع قيمة كل شيء بجسدها
وبعد أن كان السياسيون والحقوقيون والإعلاميون يحيطون بها في البداية،
أصبحت محاطة بالقوّادين ومروجي المخدرات والمشردين من كل اتجاه. باختصار بعد أن كانت تبحث عن الحرية، أصبحت عبدة في سوق النخاسة.
المواضيع المتشابهه 
لا جئة سياسية 
العرض الشجري
