لا أتذكر الأسباب التي دفعت بنا للإنتقال إلى هذه الشقة ولكن ما أتذكره أننا لملمنا أنفسنا وبقايا بسيطة جداً من ملابس متواضعة بعضها خرج من الخدمة منذ أن كنا في القرية ، ولم ننس الدولابين البلاستيك ذات السحاب الذي يحاكي الأبواب نجمع فيهما شتاتنا وأشياءنا ، وأغنية كانت تتردد "قلت المطر قالت من اليوم ديمة" وزجاجة عطر لا زلت أشم أريجها تحمله لي نسائم الفجر . في تلك السيارة سماوية اللون وضعنا أمتعتنا وجسدين ناحلين مرهقين تلمح الحزن فيهما، مودعين غرفة كبيرة تجمعت فيها أجساد كثيرة لم تكن على وفاق في يوم ما لإختلاف الأطباع والأولويات ووجهات النظر، وما كان يجمع بينها سوى حب الحياة. وإتجهنا إلى شقة من غرفتين في عمارة صغيرة فرشناها بموكيت بني اللون زهيد الثمن وجعلنا من الغرفة القاصية مستودع لأمتعتنا والمجاورة للباب لنومنا وجلستنا وإستقبال ضيوفنا . كان ما يميز هذه الشقة وأتذكرها جيداً بعض الخلافات التي تدب بيننا، ولكن ما تلبث أن تتلاشى هذه الخلافات وتنتهي مع ضجيج الظروف وحاجة كل منا لآخر. ومن باب الشيء بالشيء يذكر لا زلت أتذكر جيدا عندما كنا نرتب في مسكننا في أول ليلة لنا فيه، أنهكنا التعب والجوع وخرجت لأحضر العشاء وإتجهت إلى البقالة المجاورة وإشتريت خبز وعبوة صغيرة من جبنة الكيري وعدت مسرعاً إلى البيت كان أخي في قمة التعب والجوع واستأذنته أن يتوقف عن العمل ويأتي للعشاء وقلت له بالحرف الواحد "تعال خلنا نضرب العشاء ثم نكمل!" نظر إلى ما أحضرته وقال في شدة حنقه وامتعاضه "هذا أكل ينضرب..!" وقد لامني على ما أحضرته، ولا أظن ردة فعله هذه إلا تنفيس عما يختلجه في نفسه من أشياء لا يستطيع البوح بها. وقد صادف إنتقالنا إلى هذه الشقة فترة برد شديدة وكنا لا نملك ما نغطي به أجسادنا عند النوم سوى بطانية خضراء واحدة وشبه بطانية بنية اللون ذات خطوط حمراء ارسلتها الوالدة رحمها الله عند شحن السيارة لنا وكانت من نصيبي بينما الخضراء من نصيب أخي ولا أذكر أنني تمتعت بالدفء في هذه الشقة أبدا رغم طول الليالي وبرودة الطقس وشح المؤونة. في هذه الشقة زارنا والدنا رحمه الله وقضى معنا ليلة أو ليلتين لا أستطيع أن أتذكر وفي أي من الأوقات كانت وما قدمنا له ولكنها كانت زيارة قصيرة كعادته تركت لديه إنطباع جيد كان يتحدث عنها الى وقت قريب وغرست في نفسي حب هذه الشقة رغم ما عانيناه فيها. وأتمنى أن تتحقق أمنيتي بأن أزور شارعها وأمسح بيدي على بابها الحديدي وعتبتها وأذهب بمخيلتي الى تلك الأيام وأقف متذكرا لحظة استقباله في الشارع المجاور ودخوله مع ذلك الباب حتى توديعه وهو متجه الى موقف السيارات المتجهه الى الطائف. لا يمكنني وصف أيامنا في تلك الشقة بالسعيدة ولا أبالغ إن قلت تعيسة بل بائسة وأقسى من ذلك، نظراً لحداثة أعمارنا وتجربتنا الأولى التي نخوضها بعيداً عن الوالدين وأعمالنا الشاقة التي كانت على فترتين في اليوم ولا نملك ما يساعدنا على قضاء احتياجاتنا وهذا الوضع إنعكس سلبا على نفسياتنا مع بعضنا البعض وأصبحنا نفتقر إلى المشاعر الدافئة وطغت علينا الأنانية والجهل بالحياة. لا تسعفني الذاكرة كيف كانت تمضي بنا الأيام الا القليل من مطعم كبير في ناصية الشارع غير بعيد كأنني أتناول فيه كأس من عصير البرتقال وطاولات متعددة فارغة وعامل خلف كاونتر الحساب ، هذا ما أذكره. لم يكن يعنينا السهر ولا الترفيه والترويح عن النفس رغم حاجتنا له ولا النظر الى الأفق البعيد ومداعبة الأحلام وكل ما هنالك بعض الشقاء الممزوج بآهات حزن تصدر من أحدنا عندما يتوسد مخدته . ماذا نلبس ومتى نزور الأقرباء وهل مرت بنا ساعات صفاء لا أذكر ، ربما كان هناك شيء من فرح وسعادة في تلك الأيام ولكن ذهبت بها قلة حيلتنا وهواننا أدراج الرياح ،،،
المواضيع المتشابهه 
شقة الناصرية 
العرض الشجري
