( النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة )
الأدلة على صحة هذه القاعدة:
- قول الله تعالى ـ:" وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ" الآية. [الأنعام: 108]
- عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: "يَا عَائِشَةُ لَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ، فَأَلْزَقْتُهَا بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ؛ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَزِدْتُ فِيهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ مِنْ الْحِجْرِ؛ فَإِنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْهَا حَيْثُ بَنَتْ الْكَعْبَةَ". أخرجه البخاري
وغير ذلك من الأدلة
بعض التطبيقات الفقهية على هذه القاعدة:
(1) جواز الأكل والشرب مما حرمته الشريعة ـ كالميتة والخمر ـ إذا اضطر الإنسان إلى أكلها أو شربها لعدم وجود غيرها، وخاف الهلاك على نفسه، فإنه يتناول القدر الذي يدفع به الضرر والهلاك.
(2) النهي عن التطوّع المطلق ـ لغير سبب ـ عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ سداً لذريعة مشابهة المشركين في سجودهم للشمس عند شروقها وغروبها. ودرء مفسدة مشابهة المشركين أوْلى من تحصيل فضيلة التطوع
(3) تحريم تصوير ذوات الأرواح؛ بالنحت، أو النقش،سداً لذريعة الوقوع في الشرك.
(4) إقامة الحدود، والقصاص، والتعزير بالضرب والحبس والنفي والجلد؛ لما يترتب على ذلك من المصالح الشرعية الكثيرة؛ كحفظ الأمن، والنسل، وقطع دابر الشر والفساد وغيرها من المصالح.
(5) كثير من المباحات تحرم إذا اتخذت وسائل للمحرمات، وتحريمها ينبني على مراعاة ما تؤول إليه من مفاسد ومحرمات. وفروع ذلك كثيرة؛ كتحريم البيع ـ وهو مباح أصلاً ـ وقت النداء لصلاة الجمعة؛ لأنه وسيلة وذريعة للتشاغل عن حضور الذكر ـ الخطبة والصلاة ـ والسعي إليه. وتحريم بيع المحرمات كالخمر والدخان، وتحريم السفر والمشي لمواقعة الفواحش والمنكرات، وتحريم بيع السلاح في الفتنة، وتحريم النظر إلى العورات، وإلى النساء الأجنبيات، وتحريم الاختلاط بين النساء والرجال، وتحريم سفر المرأة بغير محرم، وغيرها
(6) اكتساب الفعل ظرفًا زمانيًّا أو مكانيًّا ما، قد يجعل طبيعة الفعل منافيّة لتحقيق المقصد الشرعيّ المراد من تطبيق الحكم الشرعيّ، ومن ذلك تطبيق الحدود في زمن تدور فيه الحروب، أو في مكان قريب من الأعداء... فعن جنادة بن أبي أمية -رحمه اللَّه- قال: (كُنَّا مَعَ بُسْرِ بنِ أرطاةَ في البحرِ، فَأُتيَ بِسارقِ، قد سَرقَ بُخْتيَّة [الأنثى من الجمال طوال الأعناق]، فقال: سمعتُ رسولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يقول: لا تُقْطَعُ الأيدي في السَّفَرِ، ولولا ذلك لَقَطَعْتُهُ) رواه أبو داود.
وفي رواية للترمذي مختصرًا: قال بُسْرٌ -رضي الله عنه-: (سمعتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: لا تُقطَع الأيدي في الغزوِ).
قال ابن القيم في "أعلام الموقعين": "فهذا حدٌّ من حدود الله تعالى، وقد نُهي عن إقامته في الغزو، خشية أن يترتّب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره، من لحوق صاحبه بالمشركين حَميّة وغضبًا ... وقد نصَّ أحمد وإسحاق بن راهويه والأوزاعي وغيرهم من علماء الإسلام على أنّ الحدود لا تقام على أرض العدو".
بعض التطبيقات المنهجية على هذه القاعدة:
(1) الزلل في الفتيا والجواب في الفتنة:
ومن ذلك: الفتيا بجواز الخوض في القتال في الفتنة، أو تأييد أحد الفريقين المقتتلين ـ على الدنيا ـ دون الآخر، أو الفتيا بأن الحق ـ في الفتنة ـ مع جهة دون أخرى، وذلك ليس فيه مراعاةٌ لعواقب الأمور، ومآلات تلك الفتاوي الشنيعة، والنصوص الشرعية جاءت موضحة لموقف المسلم من الفتنة، والذي يتلخص فيمل يلي:
3. المبادرة بالأعمال الصالحة؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
" بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا " أخرجه مسلم(118)، والترمذي(2195)
4. التفقه في دين الله، والتسلح بالعقيدة الصحيحة، وقراءة أحاديث الفتن وأشراط الساعة وآثارها الصحيحة مع التدبر والتفهم، كما ثبت في الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه أنه كان يسأل عن الشر مخافة ان يدركه.
5. القيام على العبادة، والانقطاع إليها.
عن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ ـ رضي الله عنه ـ عن النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ:" الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ " أخرجه مسلم(2948)، والترمذي(2201)، وابن ماجة(3985).
6. العمل بمقتضى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما اخرجه أبو داود(4342) وهو في الصحيحة(205،206) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ: "الزم بيتك، واملِك عليك لسانك، و خذ ما تعرف، و دع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، و دع عنك أمر العامة ".
7. الصبر على البلاء إن وقع.
عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: ايْمُ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ:"إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، وَلَمَنْ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ فَوَاهًا" أخرجه أبو داود(4263)، وهو في الصحيحة(975).
8. الاستعاذة بالله من الفتن اقتداءٍ بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
عن عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ. . " أخرجه البخاري(832)، ومسلم(589).
---------------
(2) خوض حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام في المسائل الكبار:
فهم يخوضون في تلك المسائل الكبار ـ التي لا يجوز أن يتكلم ويفتي بها إلا أهل العلم الكبار ـ دون مراعاة للعواقب، وتقدير للمصالح والمفاسد، كمسائل الولاية، والحكم، والجهاد، والخروج على الحكام، ومعاملة المستَأْمَنين ـ من الكفار ـ في بلاد المسلمين.
فجوّزوا الخروج على الحكام المسلمين، بعد أن مهّدوا لذلك بتكفيرهم وإقناع العامة بردتهم، فكان ماذا؟
كانت الفتن، والقلاقل، وانعدام الأمن، واستحلال للحرمات، وإزهاق للأنفس المحرمات.
وجوّزوا قتل المستأمنين ـ من الكفار ـ في بلاد المسلمين، فكانت المصائب والويلات.
وزعموا مشروعية القتال!! ـ وواقعه أنه لعصبية وحمية وتحت راية عُمِّيَّةٍ ـ فكانت النتيجة تسلط أكبر لأهل الكفر على بلاد المسلمين.
فهذا المنهج المنحرف ـ بأصله ـ يزيده انحرافاً خروجه عن قاعدة مراعاة مآلات الأقوال والأفعال، التي هي قاعدة عظيمة ينضوي تحتها عموم التصرفات والأقوال والأفعال.
وكم من أبواب للشر انفتحت بسبب فتاوى لم يعتبر فيها المآل ولم يقدر المفتي فيها عواقب حكمه فأدت إلى مفاسد وأضرار، بدلا من تحقيق المصلحة المرجوة من الفتوى، كما حصل ويحصل في بعض البلدان العربية الإسلامية من تجويز الخروج على الحكام ومقاتلتهم بعد الحكم بتكفيرهم دون النظر في المآلات الأمر الذي ترتب عليه فساد كبير واختلال الأمن وظلم الناس وتضييع الحقوق وجرّ ويلات كبيرة على المجتمع.
والله الموفق.
فوائد العمل بهذه القاعدة:
للعمل بهذا الأصل فوائد متعددة، وحكم كثيرة، منها:
1. تحقيق مقصود الأحكام الشرعيّة، في جلب المصالح، ودرء المفاسد، يقول الدكتور فتحي الدريني: "إنّ الحكم الشرعيّ لا يكتفى فيه أن يكون موافقًا لظواهر النصوص أو لمقتضى القياس أو القاعدة العامّة، بل لا بدّ أن يكون موافقًا لمقصد الشرع، وهذا الأصل يوجب على المجتهد النّظر في مآل العمل بالحكم، بحيث إذا أفضى إلى مفسدة راجحة منع العمل به، وكذلك إذا كان الحكم بالمنع يؤدي إلى مثل تلك المفسدة"
2. تحقيق العدل في الأحكام الشرعيّة، فاعتبار مآلات الأفعال يجعل الأفعال موافقة لمقاصد التشريع، في رفع المفاسد والأضرار عن المكلّف، قال الدكتور الدريني: "وإنّما تبدو صلة المآل بأصل العدل في أقوى صورها فيما إذا كان المآل ضررًا راجحًا، أو حرجًا بالغًا غير معتاد، سواء أكان ناشئًا عن ممارسة حقّ أم إباحة، أم كان نتيجة لأزمة تلقائيّة لاجتهاد وتشريعي فروعي في وقائع معروضة، ذلك لأنّ الشارع الحكيم لا يقصد إلى مثل هذا قطعًا، لسبب بسيط، هو كونه منافيًا للأصل العام الذي عليه تشريعه كلّه، من جلب المصالح ودرء المفاسد"
3. العمل بهذا الأصل يُظهِرُ واقعيّة التشريع الإسلاميّ، فمراعاة الخصوصيات واختلاف الظروف والأحوال، تجعل الأحكام الشرعيّة موافقة لمقصد التشريع، في تحقيق المصالح للعباد، ودفع المفاسد عنهم، يقول الشاطبي في "الموافقات": "لا يصحّ للعالم إذا سئل عن أمر كيف يحصل في الواقع إلّا أن يجيب بحسب الواقع، فإن أجاب على غير ذلك، أخطأ في عدم اعتبار المناط المسؤول عن حكمه، لأنّه سُئل عن مناط معيّن، فأجاب عن مناط غير معيّن".