الرياض
7:30 مساءاً
بيت " أبو محمد "
تطوف على الجالسين .. وتقدم القهوة المرة كحياتها .. امرأة تلو الاخرى .. وهي تشعر بأعياء يفتك بكل عضلة .. بل بكل خلية في جسدها .. فجميع اهالي الحي .. جاءوا اليوم ليقدموا تعازيهم بوفاة شقيقها .. تحدث نفسها بين دقيقة واخرى .. وهي تتمنى أن تستيقظ غداً وتجد ان ما حدث طوال الاسبوعين الماضيين ما كان إلا كابوس .. تنساه مع الايام .. لكن هل الكابوس طويل الامد هكذا ؟ .. كيف لكابوس ان يستمر لمدة اسبوعين ؟ .. انه مستمر .. والوجع المتلبد في قلبها مستمر أيضاً .. مشت بهدوء نحو المطبخ .. وبدأت بصنع قهوة جديدة ..
محمـــــد ..
يا نبضات القلب ..
هل سيخبو بريق اسمك شيئاً فشيئاً ؟ ..
هل سننساك مع مضي الايام ؟ ..
هل ستكون صفحة وانطوت في كتاب ذاكرتنا ؟ ..
ليت الذي حدث لك .. لم يحدث ..
ليت البكاء قادر على استرجاعك ..
آه .. لو تعلم عدد الجروح التي اصابت القلب بعد رحيلك ! ..
جروحنا اصبحت غائرة ..
فبعدك سوط .. يجلدنا به الزمن ..
محمـــد ..
عسى ان يرحمك الله ..
ويدخلك جنة .. تستريح فيها بعد تعب دنياك ..
مسحت دموعها .. وهي تنظر للقهوة امامها .. اخذتها .. وذهبت في جولة أخرى حول النساء المتبقيات في منزلهم .. ثم دخلت الى غرفة نومهم .. ونظرت لشقيقتيها المنكبتين على دفاترهما .. لاستذكار الدروس .. اغلقت الباب .. وخرجت الى الباحة الامامية لمنزلهم .. غداً .. ستذهبان للمدرسة .. وستجلس هي ووالدتها في المنزل .. حتى يحين موعد الغداء .. تعودان من المدرسة .. يتناولون طعامهم .. ثم يأخذون قيلولة بسيطة حتى العصر .. ثم ينهضون .. تستذكر دروس شقيقتيها كما اعتادت .. وتجلس والدتها لتقرأ القرآن .. يعدون العشاء .. ويتناولونه .. ثم ينامون ..
أين محمـــــد من كل هـــــذا ؟ ..
اصبح ذكرى .. طواها الزمان .. رحل وكإنه لم يُخلق .. رحل ولن ينتظرونه مرة أخرى لتناول الغداء .. رحل ولن تيقضه عصراً لذهابه للمقهى .. رحل ولن تغضب حينما يترك ملابسه مبعثرة .. رحل وكأن والدتها انجبت ثلاث فتيات فقط ..
ستمضي الايام .. وينسونه .. ليس برغبة منهم .. وإنما بأمر من الحياة .. وما يزعجها في الامر .. انها ورغم اعتيادها على المفاجآت التي خطها الزمن .. لكنها تتألم وكأن فقدانها يحدث لأول مرة .. وكأنها تفقد قطعة من قلبها لأول مرة .. نست فقدانها لوالدها فيما سبق .. وستنسى فقدانها لشقيقها ايضاً .. لكنها لا تريـــــد نسيانهم .. لا تريــــــــد ..
- البقاء لله يا بنتي ..
نظرت للمرأة العجوز امامها بوجع .. للحظات .. ثم استدركت محيطها .. وهي تقول : تفضلوا .. تفضلوا داخل ..
مشت المرأة التي كانت بجوار العجوز باتجاه الباب الداخلي .. وهي تقول : يالله خالتي .. دخلي ..
تبعت خطواتهم .. حتى دخلوا .. وبدأوا بتعزية والدتها .. مضت نحو المطبخ وهي تعد المزيد من القهوة .. ثم عادت وقدمتها لهم .. واتجهت نحو الغرفة التي تحتضن شقيقتيها مرة اخرى ..
جلست على المقعد القابع في الزاوية .. بعد إن رفعت الكيس المتواجد عليه .. فتحته .. ونظرت لما موجود في داخله .. مدت يدها .. واستخرجت .. " محفظة نقود " و " قلم ازرق اللون اعتاد محمد على حمله " .. هل هذا فقط ما تبقى من اخيها ؟ .. هل هذه الاغراض بقيت للتنفس الهواء .. وهو دُفن تحت التراب ؟ .. وضعت القلم بجوارها .. وفتحت حافظة النقود ..
عدة اوراق نقدية ..
هويته الشخصية ..
ورقة تثبت بأنه موظف لدى إحدى الشركات ..
ما فائدة هذه الاغراض بدونه ؟ .. ما الفائــــدة منها ؟ ..
******
الرياض
8:10 مساءاً
شركة العالي
- يبــــــــاا .. قولي ايش صاير معاك .. لا تبقى كذا ..
يجلس بهدوء .. ويستمع لولده ظاهرياً .. بينما في اعماقه .. هو معها .. غير آبه بأحد ..
قال بنفاذ صبر .. : الشركة بخير الحمدلله .. والبيت ما فيه اي مشكلة .. وجدتي بخير .. ايش اللي مضايقك ؟ ..
الطرف الاخر مستمر بالسكوت .. لا يُسمع منه شئ سوى انتظام انفاسه الملتهبة ..
يعلم ان والده لم يستمع لأي كلمة قالها .. فرفع صوته قليلاً .. : يبــــااا ..
نظر لإبنه بحدة .. : سيــــف .. انا مو رايـــــــق .. قلتلك مية مررة .. ما فيني شي ..
سيف .. بضجر .. : اربع وعشرين ساعة في الشركة .. ولو رجعت البيت تنام بدون لا تتكلم .. اكل ما تاكل .. وعصبيتك فول .. وفوق كل هذا صحتك متدهورة .. يباا واللي يسلمك .. وين اللي ما فيه شي ؟؟ ..
صرخ بغضب .. : ولـــــــــد .. لا تتدخل فشي ما يخصك .. اطلـــــع برا ..
تنهد بصوت مسموع .. وهو متجه نحو الباب : يباا تراني ولدك .. تقدر تقاسمني همومك ..
زفر الاخر بغضب .. دليل على فقدانه لصبره .. ثم عادت الذكريات لتفرض سطوتها على اركان عقله ..
*
*
*
& مــــــــــــــــــاضي &
~ ذكريــــــــــات عبدالعــزيـــز ~
يجلس على الفراش .. يده اليمنى تحيط بكتفها .. والاخرى تتلمس بطنها المنتفخ .. وهو يقول بحب .. : يا حياتي .. انا ابي ولد عشان يرفع اسمي ..
قالت هي بامتعاض .. : ايش يعني البنت ما بتحافظ على اسم ابوهاا ؟؟..
ابتسم وهو يسايرها .. : يا بنت الحلال .. الولد لا كبر وتزوج اطفاله كلهم بيرفعون اسم عائلتنا .. بس البنت بتتزوج واطفالها بيكونون تابعين لعائلة زوجها ..
حركت رأسها بإيجاب .. وهي تحرك خصلات شعرها بغنج .. : صــــــادق .. – ثم قالت بلهفة – ايش بنسميه ؟؟ ..
قبَلَ قمة رأسها .. واستنشق عبير شعرها بهيام .. : امممممممم .. ايش رايك في ناصر .؟؟ ..
رفعت جسدها .. وابتعدت عنه بصعوبة .. لتجلس مواجهة له .. : لاااا .. ناصر اسم ولد عبد الرحمن .. اسم ابني لازم يكون فريد ..
ضحك بقوة .. : فــــريد ؟؟؟؟
قالت بزعل واضح .. : لااااا مو كذا .. قصدي اسم ما في منه في العائلة .. مثلاً امممممممم .. فيصـــــل ..
ما زالت الابتسامة متربعة على عرش ثغره .. قال ممازحاً .. : وشلونك يابو فيصل ؟؟ .. – حرك رأسه بعلامة الرفض – ابو فيصل ؟ .. لالالا ما عجبني ..
سحبت ذراعه نحوها .. برجاء .. : لا عزيز .. تراه اسم حلو مررة ..
جذبها نحوه بحركة لطيفة .. لتستند مرة أُخرى على صدره .. : لا ما عجبني .. ايش رايك فأسم سيف ..
قالت في محاولة لمحاكاة اسلوبه .. : امممممممم و شلونك يا ام سيف ؟؟ .. ام سيف ؟؟ .. لالالا ما عجبني ..
ضحك بسعادة .. وهو يقول .. : اسم سيف حلو ..
تلعب بأصابع يديه .. : وإسم فيصل حلو ..
قبَلَ وجنتها .. : اول طفل سيف ..
قالت بأسف .. : امممممممم ماشي يا عزوز .. بتنازل المرة هذي .. لكن الثاني اسميه فيصل ..
طوقها بذراعيه .. : حاااضر ..
******
عودة الى الحاضـــر
******
قطع سيل ذكرياته صوت رنين الهاتف المحمول .. رفعه و نظر لإسم * البيت * الذي يتوسط الشاشة .. ضغط على الزر الاخضر .. وبقي ساكتاً ..
- احــم .. السلام عليكم ..
أجاب ببرود .. : وعليكم السلام .. خيـــر ؟ ..
سكوت على الطرف الثاني .. دام لثواني معدودة .. ثم أتاه الصوت مرة أُخرى .. : انـــا بارجع البيت مع فـــ .. فارووق ..
صرخ بغضب .. : لا .. ما ابغاه يدخل بيتي .. فاااهمة ؟؟ ..
قالت بصوت كسير .. : طيب ما فيه احد بيرجعني البيت غيره ..
زفر بغضب .. وهو يشعر بناراً تلف احشاءه .. وأغلق الهاتف دون أن يرد عليها .. وضع هاتفه المحمول في جيبه .. ثم أخذ مفاتيح السيارة .. وخرج بهدوء .. رغم الفوضى الموجودة في داخله .. يكره سيرة ذلك الوغد .. والان بات يشعر باحتمالية وجود بذرة كره نحو زوجته الثانية .. إنهم السبب في كل ما يحدث له الان ..
******
الرياض
9:50 مساءاً
فيلآ " ام عبدالرحمن "
جففت دموعها بحجابها .. وهي تقول : ما هانت علي .. يا شين الفقد والله ..
يجلس كلاً من * عبدالله وسيف * امامها بحزن .. وهما متأثرين بشدة لحالة تلك العائلة .. قال سيف بمواساة لجدته .. : يماا .. كلنا على هذا الطريق ..
بينما تقدم عبدالله وطبع قبلة على يدها .. : راح عند اللي احسن منهم ..
بكت مرة أُخرى وهي تردد .. : ما عندهم احد .. بس البنات الثلاثة وامهم .. كيف بيعيشون ؟ ..
رد عبدالله بقوة .. : وانا وين رحت يماا ؟ .. اهل صاحبي بحسبة اهلي ..
لم تجيبه .. بل استمرت بالبكاء ..
سيف .. بحزن .. : طيب ما عندهم خال .. عم ؟؟ ..
أجابه الاخر .. وصورة ذلك الرجل الانيق .. ذو الملامح القاسية تعود لذاكرته .. : عندهم عم واحد .. لكن علاقته معاهم سطحية ..
قالت ام عبدالرحمن باستنكار .. وغضب .. : تراهم لحمه ودمه .. كيف يتركهم كذا ؟؟..
عبدالله .. : محمد الله يرحمه كان يقولي .. انه عمه ما يزورهم ابد .. رغم انه انسان غني .. ولا فكر يعرض عليهم المساعدة بعد وفاة ابوه ..
سيف .. : على كلام جدتي .. حالهم يبكي الصخر .. معقولة ما تأثر ؟؟ ..
حرك عبدالله رأسه بإيجاب .. واستمر بالصمت .. لقد كان صاحبه يعمل بدوامين .. ففي الصباح يعمل في شركتهم الخاصة .. كأحد الموظفين العاديين .. وفي المساء يعمل في ذلك المكان المشؤوم .. المكان الذي لقي حتفه فيه ..
قال سيف .. : طيب وما عرفتوا مين اللي قتله ؟؟
اجابه عبدالله .. وعينيه تنظر لوالدته الباكية .. : لا .. المفروض اروح المخفر بكرا او بعده .. عشان افهم وين وصلوا فالتحقيق ..
ام عبدالرحمن .. : عسى ربي يوفقهم ويمسكوه ..
سيف .. بصدق .. : آمين ..
نظرت لولدها الصامت .. تعلم بأنه حزين لفقدان صاحبه .. لكنها ستقول له الان بشأن تلك الفتاة .. : عبدالله ..
اجابها بهدوء .. : لبيـــه ..
قالت برجاء .. : اخته لازم تلقى وظيفة .. عشان يقدرون يعيشون ..
عقد حاجبيه بعدم فهم .. : اخت مين ؟؟ ..
ردت عليه .. بصوت متهدج .. : اخت محمد ..
وكأنه لم يستوعب الامر .. : طيـــــب ؟
شرحت له الوضع .. : الحين ما عندهم دخل ثابت يعتمدون عليه .. وعشان كذا ام محمد طلبت مني اني اقول لكم تشغلون بنتها عندك .. مكان محمد ..
صمت لفترة تعدت الدقيقتين .. وهو يعيد حساب الموضوع في رأسه .. " لا تريد شفقة منك " .. من بين مئات الافكار .. قفزت هذه الفكرة في رأسه .. انها لا تريد ان يشفق عليها .. إذاً لماذا طلبت منه ان تعمل تحت إمرته .. نظر لوالدته .. : يماا .. انا بدور لها وظيفة تناسبها .. لكن مو فشركتنا ..
اجابته والدته .. بتأنيب .. : كيف تخليها في مكان غريب .. تراها بحسبة اختك ..
تدخل سيف .. : في شركتنا او في غيرها .. ايش تفرق ؟؟ ..
قال عبدالله في محاولة للشرح .. : عشان ما تحس اننا نتصدق عليهم ..
سيف .. بتصحيح للوضع .. : تراها كذا ولا كذا بتاخذ مرتب لانها بتشتغل .. ما بتجلس رجل على رجل ..
سكت وهو يفكر .. يا لهذه الامانة التي وقعت على عاتقه ! ..
******
" اليوم التالي "
******
الرياض
مستشفى ال ******
9:30 صباحاً
ازدردت ريقها بصعوبة .. وهي واقفة امام مكتب الاستعلامات في المشفى .. ماذا لو كانت كفاءتها ليست بالمستوى المطلوب ؟ .. ماذا سيحدث لو فشلت في الوصول لأحلامها ؟ .. ليس لها مستقبل في حياتها الاجتماعية .. لذلك .. لا بد من بناء مستقبل زاهر في حياتها العملية .. عسى ان يوفقها الله فيما اقدمت عليه ..
- دكتورة .. د. بدر ينتظرك في الطابق الثاني .. في مكتبه ..
حركت رأسها بالايجاب .. ومشت متجهة نحو المصاعد .. انتظرت عدة ثواني حتى فُتحت بابه .. دخلت وبجوارها ثلاث اشخاص .. لم تعرهم اي اهتمام .. ففي دماغها الان هدفاً واحداً تسعى لتحقيقه .. وهو اثبات هويتها .. ورفع اسم والدها عالياً .. علّها ترد بعضاً من كرامته التي أهدرتها بيديها ..
خرجت من المصعد بخطوات متهادية .. ومشت حتى وصلت لغرفة كُتب عليها .. " د. بدر الراسي " .. ذكرت اسم الله .. وطرقت الباب ..
- تفضــــــــل ..
دخلت بهدوء .. : السلام عليكم ..
أجابها بآلية .. : وعليكم السلام .. تفضلي ..
مشت حتى وصلت لأحد المقاعد .. جلست .. : انــ .. انــآ ندى عبدالرحمن ..
ابتسم .. مما زاد وجهه جاذبية .. : أعرف .. سمر فهمتني ..
ابتسمت تحت غطاءها .. وشاب صفاء وجهها بعض الحمرة ..
قال بصوت هادئ .. : بتنضمين .. ان شالله .. للكادر الطبي في الطوارئ ..
حركت رأسها بإيجاب ..
حرك قلمه بحركة سريعة ورتيبة .. اعتادها .. : انتي أكيد عندك علم مسبق بطريقة العمل في الطوارئ ..
ازدردت ريقها .. : ايــه .. لكن ما اشتغلت على كيسات لوحدي ..
" كيسات جمع case واللي معناها حالة مرضية .. كلمة يستخدمها الاطباء فيما بينهم "
قال مطمئناً .. : الاطباء الموجودين ما بيتركوك لوحدك ان شالله ..
قالت بارتياح .. : طيب ..
أكمل كلامه على نفس الوتيرة .. : اتمنى انك تكونين قد الثقة اللي باعطيكياها ..
قالت بصوت مرتجف .. : ما بخذلك ان شالله ..
ضغط على زر بجانبه .. فدخلت ممرضة .. سعودية .. بعد عدة دقائق .. : نعم د. بدر ..
قال وهو يشير لـ * ندى * .. : هذي د. ندى .. ابيك تعطيها نبذة عن اروقة المستشفى .. وتدليها على مكان استراحة الطبيبات ..
قالت باحترام .. : حاضر .. تفضلي معاي د. ندى ..
نهضت وسارت مع تلك الممرضة .. التي كانت ودودة بعض الشئ .. تعرفت على الاماكن المهمة حالياً .. وقضت بقية الوقت في الاطلاع على حالة بعض المرضى ..
مضت ساعتين .. شعرت فيها باستقلالها .. وبقدرها .. وبالذات مع الاحترام المقدم لها من المرضى .. والممرضين .. وحتى الاطباء .. رأت جانباً جديداً من شخصيتها .. لم تعرفه فيما سبق .. وهذا الجانب هو " ندى قوية الشخصية " ..
ما هــــــــذا ؟ ..
نظرت لوالدها المقبل باتجاهها .. هل اتى للإطمئنان عليها ؟ .. هل أتى لانه علم بسماعها لكلماته المؤلمة ؟.. هل اتى ليساندها في اول يوم ؟ .. هل ....... ؟
تجاوزها .. ومشى بخطوات ثابتة نحو احدى الغرف .. دخلها واغلق الباب خلفه ..
من هذا يا ترى ؟
******
انتــــــــــــــهى