حدثني صاحبي قائلا: لم تستقم لي حالة مُذ وُلدت، ولم يخِفَّ عني كرب منذ نشأت، ولم تلِن لي نفسٌ منذ حييت - إلا أني مع ذلك قد عشتُ عذْبًا وسطَ عذاب، وريحانًا في سَموم، وأملًا داخلَ ألم، أتخلل السعادة من كل ذلك بيدٍ وقلب: سائرًا لا أخاف، وخائفًا لا أسير!
ثم إنه كان من أمري في الصغر، أن حبّب
الله لي هذه القراءة والنهل منها، فكنتُ أقضي على أيامي بكتابي، أتتبع ( عيون الأخبار) بـ ( أغاني) الشباب، وأسقي ( ثمر الألباب) على طول ( الأيام)، وكل هذا كان ( تحت راية القران)! فقد كنتُ يا صاحبي: أقرأ بنهم، وأتصفح بعافية، وأستزيد على غير قناعة - في وقتٍ كان الحفلُ فيه للكتاب نادرًا أو مُعابًا .. إلاّ أن
الله مع ذلك: قد حبّب لي ذلك!
ومضى بي العمر إلى حلو الشباب، حيث اللهو بلا نهي، والسنّ بلا رسن، والأمل بلا أجل، فكان من شأني فيه: أن تمنيت الأدبيةَ العالية، والمجلسَ الصدر، والإمامةَ على الجماهير .. وصالونَ ( مي)! ولذا فقد غذوتُ السير إلى ذاك، وغذيته بذاك: أقرأ لأكتب، وأكتب لأقرأ!
وإلى هذا وذاك، فقد كنتُ امرأً مجبولًا على الفخر – كحال من قحّ من الأعراب أو استعرب – متبسمًا إلى الزهو، متزيّنًا للمديح، ومعتدًا بما فيّ وما ليس فيّ؛ شعاري من ذلك: " إنّ أبا سفيان رجلٌ يُحبُ هذا الفخر .. فلو جعلتَ له شيئًا يا رسول الله"! وشعاري عند ذاك: " امدحني وخذ ما في جيبي" ! – ويجدر لي أن أخبرك بأني لا زلت على ذاك الطبع؛ فالتزمني آخر الشهر! -.

والحاصل من كل هذا بخلاصة: تجمّع لي من كل شيءٍ شيءُ، ولم يبق إلاّ سانح الفرصة!
فصرت – يا صاحبي – أتحينها فلا تجيء، وأرصدها فلا تظهر، وأصبر لها فلا تنفرج! كل هذا وأنا أكتب، ويشيع خبري أني أكتب! وفيما بين ذاك وذينك: تذهب الحسرةُ بقلبي حين أرى فلاناً "الساذج" يكتب في صحيفة كذا، وفلاناً " التافه" يُلقي محاضرةً في دار كذا! وأنا على كلٍ مشغول القلب بهم، متشاغل العقل عنهم؛ بحديث أولئك الأكذبين الأقدمين: ( ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل)! إذْ والله ما ضيق عليّ عيشي وصدري مثل هذا الأمل الذي لا يجيء ولا يحين!!
وعكفتُ على حالي هذه سنينَ عددا: قلبي يتلمظ على ( مافيش)، ونفسي تتوق إلى ( الدناديش)! حتى وصل بي الحال والمآل إلى شهرة خفيّة كتلك التي تجيء في الإعلانات الضمنية - حين يُعلنُ عن مُنتجٍ داخلَ مسلسلٍ أو فلمٍ أو نشيد. ( كالتي تراها من شرب لبن المراعي في ثنايا مسلسل طاش ما طاش)!
عجبتُ من صاحبي حينها فسألته: وكيف صار ذاك؟!
فضحك وقال: لقد ذعتُ ( شَعبياً) أني أكتبُ؛ فصرتُ حديثَ الحيِّ من أهلي وربعي: هذا أكتب له كلمة أولياء الأمور في مدرسة ابنه الابتدائية، وذاك أكتب له معروضاً إلى وزارة الشؤون القروية، والثالث: بكلماتي شُقّت أخاديدُ الصرف الصحي له، والرابعة المسكينة – آهٍ لتلك المسكينة! - أخرجتُ لها زوجها ( المدين) من سجون الدائنين!
ثم عاودَ صاحبي الضحكُ الهستيري، فقال يبكي: وهكذا تحولت أمنيةُ الأديب إلى كاتب معاريض!
واسيتهُ أنا بعد ذلك قائلاً له: اتكل على
الله واشتغل لبرالي!
* المعاريض في اللهجة السعودية هي الخطابات التي تكتب إلى المسؤلين طلبًا أو شكايةً .
تستطيع المشاركة هنا والرد على الموضوع ومشاركة رأيك عبر حسابك في الفيس بوك