منذ سنوات كنت مؤمن بما يقال وبما يدور في الاوساط الإعلامية والإجتماعية السعودية مما يدار في الواقع من مشاكل تواجه المواطن السعودي وكنت مؤمن ايضاً بالحلول التي تطرح وقتها ، لكن بعد قرائتي لعدد من الكتب الإقتصادية والسياسية الغربية والامريكية منها خصوصاً وبعد دراستي للإقتصاد وجدت ان تلك الحلول التي كانت تطرح ولا تزال تطرح إلى الان ليست إلا مجرد حلول مثالية رومانسية تخاطب النيات وتتوسل الاقوياء ليكونوا طيبين والاشرار ليكونوا اخيار ، لذلك هي حلول فاشلة حتى وإن تبنتها الحكومة بنفسها .
احد هذه المشكلات مشكلة إرتفاع اسعار الارضي والعقار , بدون الخوض في تفاصيل المشكلة فالجميع يفهمها ويعرفها حق المعرفة ، لكن لو سألتهم ما رائكم في الحلول للآسف لن تسمع اي حل مجدي ولن تسمع تبرير لسبب ظهور هذه المشكلة يقنعك ، الكثير وحتى كبار المسؤولين واعضاء تمثيلية مجلس الشورى يقولون جشع التجار او الملاك هو المشكلة ، وحله يكون بفرض اسعار معينة على العقار وهذا مستحيل او مخاطبة التجار ودعوتهم إلى إتقاء الله في خلقه !! , والسبب الاخر هو الإحتكار وقلة العرض ولهذا سببين سنناقش السبب الثاني منها ، الاول هو إستغلال الامراء لقوتهم المطلقة في إحتكار الاراضي وهذا سبب سياسي بحت وليس إقتصادي كما يحاول تمييعه المطبلين ، ليس لنا علاقة بهذا السبب لأنه سيفتح ابواب لمواضيع كثيرة اهمها المملكة الدستورية ، فلنتجاهله ، السبب الثاني هو إحتكار الاثرياء لمساحات شاسعة من الارضي ورفضهم بيعها او الإستفادة منها .
اعلاه هو ما يضنه الكثير سبب مشكلة ارتفاع اسعار العقار ، الحقيقة انا اراه اسباب صحيحة بشكل عام ، لكنها مبررة إقتصادياً وفق البيئة الإقتصادية السياسية السعودية ، وانا ابررها اخلاقياً ايضاً ، يتحدثون عن جشع التجار وكأنهم ملائكة ؟ ، واهم هو من يضن ان التاجر سيقلص من هامش ارباحه الممكنة حتى يخرج من صفة " التاجر الجشع " هذه مثاليات لا نراه إلا في مسلسلات لؤي حمزة ، كل التجار جشعون ، حتى بائع السواك ، والجشع ليس مذموماً وفق نظرية السوق الحرة ، هؤلاء الذين يطالبون الملاك واصحاب العمائر بتقليل اسعارهم او اسعار الإيجار هم اول من سيرفض هذه الفكرة لو كانوا ملاكاً بل ربما هم كذلك ولكنهم ينافقون .
ان الاسعار تتحرك وفق ديناميكية معينة ومسيرة بدقة رغم عشوائيتها الظاهرة ، تحركها المنافسة الحرة او نوع ونمط النظام السياسي ، عندما يعرض صاحب الارض ارضه للبيع فهو يرجو اقصى سعر في فترة زمنية معينة ، ويحدد اقصى سعر ممكن من خلال صفقات الشراء التي حصلت في نفس البيئة والمنطقة الجغرافية في الوقت القريب ، اي لو افترضت انني امتلك ارض في مخطط معين ، وقد بيعت قطعة ارض فيه بمبلغ مليون ريال فرضاً ، اول ما اقوم به اني سأقاران ارضي بالارض تلك التي انباعت بهذا المبلغ ، هل هي نفسها اصغر او اكبر ، عندها احدد اقصى سعر ممكن لهذه الارض ، ولو كانت لي نفس الارض بنفس المقاسات والمواصفات ، لن ارضى بأن ابيعها بأقل من 990000 ريال وليقولوا عن جشع ، واتحداهم ان يأتوا بمالك عقار باع عقاره لثاني عرض او ثالث او رابع وقد ترك الاول لأنه شخص يكره الجشع والطمع ! ، يستحيل ان يجدوا .
ان من يتحدث عن كون الجشع احد اسباب إرتفاع سعر العقار ، إنما يتحدث برومانسية لا تقبلها ولا تحاكي واقع سوق العقار السعودي ، إن جشع التجار والملاك ليس السبب فالكل يبحث عن اكبر سعر ممكن في كل شيء ، وبما ان الطلب في سوق العقار اكثر من العرض فلا يوجد منافسة حقيقية.
هذا سبب مزعوم ودحرناه بلغة الإقتصاد المتطرفة في المنطق والمادية التي لا تؤمن بمثاليات ورومانسيات كتابنا ، إذاً قد يكون فعلاً السبب الثاني هو السبب الوحيد والحقيقي للمشكلة ؟
الإحتكار وقلة العرض والإمتناع عن بيع او الإستفادة من الارضي الخام ، هل هذا هو حقاً السبب في إرتفاع اسباب الاراضي في السعودية ؟ , مبدئياً نعم هذا السبب وانا اقر بذلك ، قلة العرض والإحتكار سبب إرتفاع الاسعار في كل شيء واي شيء ، لكن هل نتوقف عن البحث ونلوم الملاك على ذلك ونجبرهم بالقوة على البيع ؟ بالتأكيد لا ، وعملهم هذا مبرر وفق نمط الإقتصاد السعودي وانا ابرره اخلاقياً ايضاً .
اولاً ساسأل سؤال : ماذا يكلفك إمتلاكك لأرض لمدة سنة في السعودية بعد التغاضي عن سعر المدفوع في الارض ؟
السؤال الثاني : ماذا يكلفك إمتلاك ارض لمدة 5 سنوات ؟
السؤال الثالث : ماذا يكلفك إمتلاك ارض لمدة 10 سنوات ؟
- ماهي تكلفة إمتلاك ارض لمدة 20 سنة ؟
- ماهي تكلفة إمتلاك ارض لمدة 50 سنة ؟
إذا اجبت الإجابة الصحيحة على الاسئلة السابقة فانت ستعرف لماذا اسعار الاراضي مرتفعة في السعودية وسيخرج الملاك براءة من التهمة .
الإجابة الصحيحة هي صفر ! ، ليس للسؤال الاول فقط بل لكل الاسئلة ، نعم ان تكلفة إمتلاك ارض في السعودية لمدة سنة هي نفسها تكلفة إمتلاكها لمدة 50 سنة ، إذاً قل لي لماذا ستفكر في بيعها في الوقت الذي يمكن الإحتفاظ بها , حتى وإن كانت محاطة بإزدحام عمراني ، من سيجبرك على بيعها او إستثمارها ؟
نعم هذا هو السبب الحقيقي لإرتفاع اسعار الاراضي لدينا ، ليس الملاك بل البيئة الإقتصادية والنظام الإقتصادي لدينا ، انه نظام لا يساعد ابداً في " تسليس " اسعار العقار والارضي ، نظام لا يفهم حتى الان سلوك السوق العقاري ، يضن انه يعمل تماماً كسوق الاغذية والالبان ! وهذا هو الخطأ بعينه .
ان سوق العقار من منازل زاراضي وغيرها ، يعتبر سوق ذو بضائع طويلة الاجل إن لم تكن معمرة إن صح التعبير ، الارض اليوم هي نفسها الارض بعد 50 سنة ، هناك تغيير طفيف من حيث تغير نوع الخدمات المزودة بها ، ولكن السلعة هي نفسها لم تتلف ولم يذهب موديلها ، والمنزل اليوم هو نفسه بعد 20 سنة ، على عكس باقي النشاطات الإقتصادية الاخرى كتجارة السيارات ، فالسيارة المنتجة في عام 2013 لن تكون ذو قيمة مرتفعة في عام 2020 ، اي انك ان لم تبيع هذه السيارة في هذه السنة فستخسر كلما يذهب عليها عام ، ومثل هذا الشيء يحصل في الكثير من السلع ، وهناك بعض الإستثناءات مثل المعادن والذهب ولكنها اشياء لا تمس حياتنا مثل العقار فإذاً لا شأن لنا بها .
ان مالك الارض او العقار على عكس مالك السيارة ، يستفيد كلما ذهب عام على ارضه وعقاره ، لذلك فالتخلي عنه وبيعه بالتأكيد سيكون ذو ثمن مرتفع وغالي جداً ، وهذا ما يحصل في السعودية .
لكن هذا منطق إقتصادي اي انه عالمي لا شأن له بأي بلد ، فكيف عالجوا الامر في الدول المتقدمة إقتصادياً ؟
الكثير يتحدث ويقارن بين اسعار العقار في امريكا وبريطانيا واوربا بشكل عام وبين اسعار العقار في السعودية ، فيظهر بنتيجة انها ارخص ويقدمها كحجة في عيون ملاك الارضي والعقار ، الحقيقة ان ما اتى به من مقارنة ليست حجة له وليست حجة ضد الملاك بل هي حجة ضد المشكلة وضد نظامنا الإقتصادي المعاق .
قليلون بل ينعدمون هم من يتسائلون عن سبب إنخفاض اسعار العقار في امريكا او اوربا ، هل تتذكرون ما قلناه اعلاه عن ان تملك ارض يختلف عن تملك سيارة حيث انه كلما مر الزمان على الارض يستفيد مالكها اكثر من مالك السيارة الذي يخسر ؟ حسناً ، في الولايات المتحدة والغرب والدول المتقدمة عموماً قتلت هذه الميزة وجعلتها غير نافذة ، والنتيجة هبوط اسعار العقار حتى اصبحت راضخة لسوق العرض والطلب وسوق المنافسة مثلها مثل السيارة ، كيف فعلت ذلك ، فعلتها عن طريق الـ Property Taxes او ضريبة الممتلكات ، في اميركا وبريطانيا على سبيل المثال يتوجب عليك دفع مبلغ معين يمثل نسبة معينة من قيمة العقار او الارض في سوق العقار للحكومة ، وعادة تسمى بضريبة البلدية ، لذلك فليس من صالح المالك الامريكي او البريطاني ان يمتلك مساحات شاسعة لا يستفيد منها ، كونه يدفع مبلغ مالي عليها كل سنة ، لهذا يلجى الكثير من المستثمرين والملاك في هذه الدول في التخلص من العقارات الغير مستفادة منها بدلاً من تحمل ضرائب بدون مقابل ، والنتيجة إزدياد العرض الذي يثبط من اسعار السوق ويزيد وطيس المنافسة التي تساعد ايضاً في تقليل الاسعار لتصبح معقولة ويمكن دفعها .
انا اؤمن بأن هذا هو الحل الوحيد القطعي لمشكلة إرتفاع اسعار الارضي ، إن لم تفرض ضرائب سنوية على اصحاب الاراضي فستسمر المشكلة وتكبر وتتضخم سنة بعد سنة ، اما الرومانسيات ومخاطبة نيات التجار فهو كلام سخيف لا يمت للواقع بصلة ، وبما اننا في دولة غنية وثروتها تأتي من رسوم تجديد الرخصة والإستمارة ورسوم البلديات وشيء اخر اسمه النفط ، فلا داعي لتطبيق ضريبة ممتلكات شاملة حتى على المنازل كما هو الحال في امريكا ، بل مجرد ضريبة على الاراضي التي تدخل ضمن نطاق بلدية اي مدينة او ضمن النطاق العمراني سيحل كثيراً من مشكلة الإسكان .
اما هل سيقبل التجار بذلك او هل سيقبل " مشعل " وباقي الاحفاد بهذا ؟ ، لا تسألوني