وفي حديث أبي هريرة قال رسول الله : r (لَمْ يَبْقَ مِنْ النُّبُوَّةِ إِلا الْمُبَشِّرَاتُ ، قَالُوا : وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ ؟ قَالَ : الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ)([7])
قال ابن حجر رحمه الله([8]): عند قوله : r (لَمْ يَبْقَ مِنْ النُّبُوَّةِ إِلا الْمُبَشِّرَاتُ)
ظاهر هذا ، مع ما تقدم من أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة ، أن الرؤيا نبوة ، وليس كذلك ، إذ المراد تشبيه أمر الرؤيا بالنبوة ، أو لأن جزء الشيء لا يستلزم ثبوت وصفه له ، كمن قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، رافعا صوته ، لا يُسمى مؤذنا ، ولا يُقال : أنه أذن ، وإن كانت جزءا من الأذان ، وكذا لو قرأ شيئا من القرآن وهو قائم لا يُسمى مُصليا ، وإن كانت القراءة جزءا من الصلاة .
ويؤيده : حديث أُمِّ كُرْزٍ الْكَعْبِيَّةِ قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ : (ذَهَبَتْ النُّبُوَّةُ ، وَبَقِيَتْ الْمُبَشِّرَاتُ)([9]) أخرجه أحمد وبن ماجة وصححه ابن خزيمة وابن حبان
ولأحمد عن عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ : (لا يَبْقَى بَعْدِي مِنْ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ ، إِلا الْمُبَشِّرَاتُ)([10])
بالجملة : فإن أهل العلم يتفقون على أن الرؤيا الصادقة من الله تعالى ، وأن التصديق بها حق ، وتحتاج إلى التأويل الحسن ، ولا ينبغي أن تُعبر إلا من أهل العلم العارفين بالتأويل ، كما أن فيها من بديع صنع الله ، وجميل لطفه ما يزيد المؤمن فى إيمانه .
الرؤيا الصادقة قسمان :
الأول : رؤيا لا تحتاج إلى تفسير ، كأن يرى الإنسان في نومه شيئاً ما ، ثم يُصبح يراه في الحقيقة كما رآه في النوم.
الثاني : رؤيا تحتاج إلى تفسير ، كأن يرى الإنسان في نومه إشارات أو دلالات ، أو إيحاءات تدل على شيء معين ، يحتاج إلى إدراكها وفهمها ، إعمال العقل والتفكير .
كما أن الرؤيا الصادقة ، ربما لا تكون سارة ، بل قد تأتي محذرة من شيء ، قد يقع بالإنسان فيستعد له ، أو تنبه على محرم هو يقع فيه ، فينتهي عنه .
أصناف الناس في رؤياهم من حيث الصدق والكذب ، وموافقتها للواقع .
1- الأنبياء ([13]): رؤياهم كلها صادقة ، إذ هي وحي من عند الله عز وجل ، وإن احتاجت أحياناً للتفسير. فَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ : " أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ"([14])
2- الصالحون([15]) : الأغلب في رؤياهم الصدق ، وقد لا تحتاج أحياناً إلى تفسير، فتقع كما يراها.
3- مستورون: بمعنى أن حالهم مع الله وسط، فكذلك يكون ما يرونه في نومهم، وسط بين الصواب والتخليط.
4- الفسقة والمبتدعة: فالغالب على رؤياهم التخليط والكذب، وإن ظهر أحيانا في رؤياه الصدق، فغالبا يكون من الشيطان، ليخدعه بنفسه ويزين له ما هو عليه من الباطل، فيعتقد أنه على خير، ويقول له أمارة ذلك أنك ترى الرؤيا فتقع لك.
5- الكفار : يندر في رؤياهم الصدق، وإن وُجِدَ أحياناً كما كان في رؤيا عزيز مصر، ورؤيا السجينين اللذين كانا مع يوسف u.
قال ابن حجر رحمه الله([16]): قال أهل العلم بالتعبير :
إذا رأى الكافر أو الفاسق الرؤيا الصالحة ، فإنها تكون بشرى له بهدايته إلى الإيمان مثلا أو التوبة ، أو انذار من بقائه على الكفر أو الفسق . وقد تكون لغيره ممن ينسب إليه من أهل الفضل .
وقد يرى ما يدل على الرضا بما هو فيه ، ويكون من جملة الابتلاء والغرور والمكر ، نعوذ بالله من ذلك .
قال العيني رحمه الله([17]) : معلقا على عنوان البخاري رحمه الله (باب رؤيا أهل السجون والفساد والشرك)
أشار (أي : البخاري رحمه الله) بهذا إلى أن الرؤيا الصالحة معتبرة في حق هؤلاء ، بأنها قد تكون بشرى لأهل السجن بالخلاص ، وإن كان المسجون كافرا تكون بشرى له بهدايته إلى الإسلام ، كما كانت رؤيا الفتيين اللذين حُبِسَا مع يوسف عليه السلام صادقة.
وقال أبو الحسن بن أبي طالب : وفي صدق رؤيا الفتيين حجة على من زعم أن الكافر لا يرى رؤيا صادقة .
وأما رؤيا أهل الفساد فتكون بشرى لهم بالتوبة والرجوع عمَّا هم فيه ، وأما رؤيا الكافر فتكون بشرى له بهدايته إلى الإيمان . انتهى.