لست بصدد دراسة مقارنة حول دساتير الدول ، فنحن لا نحتاج للمقارنة هنا فموضوع دين الدولة موضوع جدلي منذ عشرات السنوات في عالمنا العربي ، ودين الدولة ميدان معركة بين النخب السياسية في عالمنا العربي ويتجدد هذا الصراع مع كل مناسبة وآخرها مناسبة صياغة دساتير ما بعد انطلاق الربيع العربي وتفجر ثورة العرب المعاصرة .
علينا أن نتفهم أن مثل هذا الموضوع " دين الدولة " كما بقية المواضيع الجدلية هي وليدة ظروفها التي نشأت فيها ، ومن الطبيعي أن أثر هذه الظروف يمتد ليصل لصياغة تلك المفاهيم والتعريفات ، لكن من غير الطبيعي استمرار حالة الصراع وكأن الموضوع يناقش في كل مرّة كأول مرة في العالم العربي .
إن كثيرا مما نعيشه اليوم من صراع فكري يمتد بجذوره عربيا لما يؤرّخه ألبرت حوراني في كتابه " الفكر العربي – عصر النهضة " منذ سنة 1798م وكانت هذه الأفكار ولدت كجدليات حين حاول العرب ( التوفيق ) الفكري بين ما جاء من أفكار المستعمر الأوربي آنذاك وبين الموروث العربي وأصوله الإسلامية التي تشكّل الثقل الأكبر من ذلك الموروث ، محاولات (التوفيق) صاحبتها ردة فعل مضادة من آخرين اعتبروا ذلك التفاهم والتوفيق مع الأفكار الجديدة نوع من التمييع والانهزام الثقافي والحضاري .
لقد ولّدت تلك الظروف الطبيعية حالة الصراع بين طرفي القضية وما يتخللهما من أطياف ، وفي مثل تلك الظروف الحدّية تخفت الأصوات التي تبحث عن خيارات أخرى تخرجنا من حالة الاستقطاب الفكري .
إن الدولة مصطلح طارئ على المجتمعات الإنسانية القديمة وهي تسمية أطلقت على النظام الذي أنتجته حاجة المجتمعات الإنسانية للتنظيم وإدارة شؤونها وفي ذلك يقول جان جاك روسو (1712- 1778) في العقد الاجتماعي :" لم يعد ممكنا للحالة البدائية – للبشر – أن تدوم ، والجنس البشري كان سيهلك ما لم يكن قد غيّر طريقته في الوجود " ولذلك بدأ في البحث عن صيغ التوافق لتجميع فواهم في شكل منظّم وكان هذا الشكل هو الدولة ، لقد كانت تلك المجتمعات متدينة بغض النظر عن طبيعة تلك الأديان ومصادرها لكن المهم أن مصطلح الدولة طارئ أيضا على الأديان ، فالدين سابق للدولة وما جاء بعد ذلك هو اهتمام المجتمعات (بتفصيل) مفهوم الدولة على موروثها والذي من أهم ركائزه الدين ، ولذلك نجد أن الدولة واجهت المشكلة مع الدين في كل الحضارات تقريبا ، وأوجد أتباع تلك الديانات والحضارات صيغا مختلفة لتعريف الدولة وأجهزتها ومن يتولاها ومهامها واختصاصاتها والإسلام أو بمعنى أدق المسلمون لم يكونوا استثناء حين عرضت لهم هذه المشكلة فاستنوا بسنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع مطعّمين تلك السنن ببعض النصوص الدينية ليضفوا على الدولة وعلى حملة ذلك التعريف للدولة بعدها القدسي وغالبا كان ذلك لغايات مصلحية بحتة ليس لها علاقة حقيقية بالدين أو التدين .
لقد طوّع مفهوم الدولة ليتناسب مع مصالح الطبقة الحاكمة في المجتمع المسلم فاستخدم الدين لذلك ، فأنتج ( دين الدولة ) كمفهوم خاضع للظروف والمصالح واستدعت تلك المصالح الكثير من الأشكال والهيئات الضرورية لاستمرارها ، فنشأ الحاكم المطلق واستعيد الحق الإلهي وأصبح الحكم ( ظلّ الله في الأرض ) واحتاج ذلك الظل للشرعية فنشأت طبقة رجال الدين ومع الوقت أصبحت لهم هيئات وأشكال مخصوصة ومسميات ودرجات علمية وأقتصر العلم على فئة منهم وابتدعت فكرة ( غلق باب الاجتهاد ) وحوّرت سماحة الدين وسعته وبعده الروحي في ضمائر الأفراد إلى عصا غليظة على الجماعة والمجتمع ، فشابهنا إمبراطور اليابان في قدسية الحاكم ، وشابهنا بابا المسيحيين بالمفتي العام وشابهنا حاخامات اليهود طبقة رجال الدين ، وتحوّل الكتاب العربي المبين إلى لاهوت سرّي مبهم الاقتراب منه ربما يدخلك في ظلمة الظلال بعد أن كان نورا للهدى !
ذلك الوصف على قسوته إلا أنه يحكي ملامح عصر الانحطاط الثقافي والفكري الذي كانت تقاومه استثناءات بين الحين والآخر تنفي عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين كما أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، إنه في تلك الأجواء عولج ونوقش مصطلح الدولة ولم يكن هناك بد من أن يسارع ذلك الخطاب لاحتواء مفهوم الدولة ويصوغه على منواله ، لذلك نجد في دساتير الشكل المعاصر للدولة الوطنية العربية وجود ذلك الصراع والاختلاف على المواد الرئيسية الأولى من الدساتير العربية والتي تحتوي نصوص من قبيل ( دين الدولة الإسلام ) أو ( الإسلام هو المصدر الرئيسي للتشريع ) أو ( الإسلام مصدر من مصادر التشريع) فتختلف الصيغ والصائغ الفكري والثقافي والحضاري والمستفيد والمتمصلح واحد .
أجد فرقا كبيرا بين أن يوجه خطاب الشرع الحنيف للأفراد والمجتمعات وبين أن يوجه للدولة كنظام ومؤسسات ، إن مناط التكليف بحسب الشريعة الإسلامية يستوجب وجود العقل والاستطاعة والحرية والبلوغ ، ولذلك يراعي الشارع الحكيم حين التكليف حالة المكلف فالعبد المملوك المقيد الحرية والاستطاعة يقع عليه التكليف بدرجات أقل من الحر المستطيع وسبب ذلك القيد الواقع عليه وهذا الجانب العملي البرغماتي للدين وتكاليفه حتى التعبدية مسألة عميقة ومستحقة النظر ويمكننا من خلال هذه الزاوية النظر للدولة لاسيما الدولة الوطنية الحديثة .
إن الدولة الوطنية القائمة على المواطنة والقطر المحدود ذات المجتمعات والأعراق والديانات المختلطة في أحيان كثيرة هي دولة غير مطلقة الحرية والتصرف بل هي مقيّدة محدودة الصلاحيات ، فمعاملتها على أنها المكلّف شرعا بصفتها العاقل الحر المستطيع البالغ ومخاطبتها بالتكاليف فيه بعد عن واقع تصوّر الدولة أصلا ، كما أن تحميل المسلمين في الدولة وحدهم مسئولية حمل الدولة على إقامة التكليف الديني وهي كما هي اليوم فيه حمل غير مفترض أصلا على جزء من المجتمع دونا عن بقية المجتمع ، وهنا لا نتحدث عن مجتمع الدولة القديمة التي ربما كانت تتكون من قبيلة واحدة أحيانا ، بل نتكلم عن دولة المواطنة التي يغيب فيها اعتبار الدين عند العرض أمام القانون في غالب الأحيان .
بالإضافة إلى ما سبق ، إننا نجد في الشريعة السمحاء تفاوتا في التكاليف بين الأفراد بحسب مواقعهم أو جنسهم ، فتكاليف الأب تختلف عن تكاليف الابن عن تكاليف المرأة عن تكاليف المسئول والحاكم ، صحيح أنهم يشتركون في أصول العبادات لكن في كثير من التكاليف يتفاوتون ، لكننا نلحظ النزعة لمعاملة الدولة على أنها المكلف بكل التكاليف المتصورة عقلا ، وما يخرج عن المتصور عقلا يستبدل بما هو متصور فالدولة لا تصلي لكنهم يطالبونها بفرض الصلاة والدولة لا تضع الحجاب فيطالبونها بوضعه والدولة لا تزكي فيطالبونها بجباية الزكاة من ناحية تعبدية لا إدارية ويعتبرون كل ما سبق وغيره من التكاليف الشرعية على الدولة !
إن كان للدولة ( دين ) فهي القيم العليا المشتركة ليس فقط بين مواطني الدولة بل بين ما اتفقت البشرية اليوم على أنها قيم ضرورية وحقوق أساسية للإنسان ، وأعني هنا قيم الحرية والعدل والمساواة والسعي نحو السعادة ، هذه القيم الأربعة هي دين الدولة المطالبة بتحقيقها لا غير ، ومهما اختلفت الثقافات والديانات والحضارات إلا أن مقاربة تلك القيم وتحري صوابها هو واجب المجتمعات وهو زاوية النظر لدين الدولة وفي هذا يطول الحديث ...