جاري شايب وعمره تعدى الثمانين عام ، مريت عليه بعد صلاة العشاء وهو جالس على الدكه ، وقلت أسولف معه وأخذ من علومه وأخباره وذكرياته ، وتجاربه في الحياة ، فالحياة مدرسة ، والتجارب هي اللتي تصقل الأنسان وتجعله مبدع في كل ما كان له تأثير مثمر في حياته ، وحذر فيما كان له تأثير له ذكريات مؤسفة .
وكانت ليلة أمس القمر فيها مضيء بنوره ، وقد أشعل نار الذكريات وأوهج شعلة السوالف .
فقد جاء طاري الرحلات والطلعات البرية في منتصف الشهر ، إذا كان القمر بدر ، ونره على الفيافي انتشر.
وكنت أسولف مع جاري عن رصلات الصيد والقنص ، والمسرى في الليالي المقمرة ، وذكريات اللقاءت الجميلة تحت ضوء القمر ، الخافت الأنارة ، المثير للمشاعر الرومانسية والأثارة .
فتذكر جاري العزيز أيام الصباء في الحارة ، ورحلات البر على الحمارة . فنمرت دموعه وألتصقت على صدره ضلعوه ثم فاضت عيناه وقال وا أسفاه ثم وا أسفاه ، على أيام الصباء والعشق والهواء وطيش الشباب ورحلات الأصحاب ، ثم هاضت مشاعره المكبوته ورفع عنها كبوته ، فقال لي ياجاري العزيز أنني أيام الصباء كنت أطلع إالى البر في رحلات مع لأصدقاء في رحلات طويلة المسار وكان كل واحد منا يمتطي حمار ، وكنا نتوجه من مكه وقد غمرتنا الفرحة والسكينة ، ثم أستمر في حديث الذكريت وقال:
قررنا التوجه من مكة المكرمة الى المدينة المنورة قبل حوالي خمسين عام وبدأ الراغبون في الزيارة في إعداد دوابهم من الحمير, فكانوا يعمدون الى الحمير اليمانية لكنهم وجدوها قصيرة لا تنفع الا في نقل الأحجار عبر الجبال والمرتفعات فزهدوا فيها الى الحمير الحساوية التي كانت أكبر حجماً وأكثر تحملاً وكانت تباع في سوق الحمير الذي ينعقد يومياً في شعب عامر ببرحة الرشيدي ..
وكانت الحمير تعلف بالشعير و (التفله) كي تكتنز أكفالها فتزداد ضخامة وقوة ثم تزين بالأصبغة والحناء بأشكال جميلة كما توشى بالقلائد والأقمشة الملونة حتى تغدو جذابة في مظهرها.
وقدعمد الرجال الى شراء الحمير أو استئجارها , فما يستأجر منها يترك لمالكه ليعلفه ويسوسه وما كان مملوكاً فإن المالك يقوم بدفعه للسائس الذي يتولى العناية به عند اقتراب موعد الزيارة فيزينه ويأخذه الى القصاص ليزين شعره بأشكال جميله ثم يسير به الى واحدة من المراغات بمكة المكرمة فيدع الحمار يتمرغ فيها بينما صاحبه ينتظر بأحد المقاهي التي تطوق المراغات.
والمراغة هي مساحة من الأرض مغطاة بالرمال النظيفة يؤتى بالدواب إليها فتتمرغ في صعيدها, ومن أشهر المراغات بمكة هي مراغة حي الغزة وكانت أمام بيوت الأشراف ومراغة حارة الباب على الطريق المؤدي الى ريع الرسام . كما كانوا يطلقون على تلك الدواب الأسماء الجميله وينعتونها بالصفات الحسنه لإختصاصها بتلك الرحلة العظيمة لزيارة المسجد النبوي وقبر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ثم بكى على ذكريات حمارته البيضاء اللتي كانت محناه بحناء حتى فاضت عيناه وأرتعدت يداه ، فأستاذنت من للذهاب للبيت لتناول طعام العشاء وقلت له لنا أن شاء الله لقاء .