[size="5"]بسم الله
عالم قرطبة حفظه يهودي وخانه مسلم طالوتُ بنُ عبد الجبار المعافري واحدٌ ممن أخذ العلم والفقه عن الإمام مالك بن أنس ونظرائه. من أهل قرطبة، اشْتُهِر بالصلاح والعلم والفضل، وقد ازدانت قرطبة يومئذٍ بالعلماء وكانت تاج الدنيا ودرتها، وعلت سماء الفضل، فكانت في فلك وحدها، والدنيا كلها تدور في ذيل نجومها، حتى قيل إنه كان في قرطبة وحدها 4000 عالم، وكان حاكم قرطبة هو الحكم بن هشام، رجل أجمع أهل قرطبة؛ عامتهم وخاصتهم على فساده وأنه مجاهر بالذنوب وشرب الخمر وغارق في ملذاته، وقد شدد على النَّاسِ حتى أسخطهم عليه وبغّضهم فيه، وحتى كان من استخفاف الناسِ به أَنهم كَانُوا يُنَادُونَهُ لَيْلاً من أَعلَى صوامعهم: الصَّلاةَ الصَّلاةَ، يَا مخمور، وأرادوا أن ينحوه عن الحكم، وكان من جملة هؤلاء طالوت المعافري الذي حماه يهوديٌّ في بيته لغير واحدٍ من الأمر فضله وعلمه وكرمه وكريم أخلاقه، ولم يمنعه اختلافُ الدين من تقديره ومعرفة حقه والإقرار بفضله، وكان ممن خرج على الحكم بن هشام مالك بن يزيد التجِيبِي قاضي قرطبة وكان من فضلاء الناس وصلحائهم، وموسى بن سالم الخولاني، وأبو زكريا يحيى بن مضر القيسي وهو أحد الرواة عن الإمام مالك بن أنس، فما كان من الحكم إلا أنْ صلبهم على جذوعٍ منصوبةٍ على الرصيف من جامع قرطبة حتى قنطرتها، وقد تجاوز عددُ المصلوبين ما يزيد علي ٧٢ عالما وفقيها، وَلم تترك الأقدار الحَكَم بنَ هشام ليهنأ بالعيش بعد هَذِه الوَقْعَة – المعروفة بوقعة الربض - فأصابتْه عِلّةٌ شديدةٌ استمرتْ أَرْبَعَة أَعْوَامٍ، وما لَبِثَ أنْ مَاتَ وقد أنهكه المرضُ وفتَّه البلاء، وقد أقبل على الله آخر أيامه نَادِمًا مُسْتَغْفِرًا وكان طالوت ممن استخفى خوفاً على نفسه، عند رجل من اليهود، وثق به، فتقبله أحسنَ قبولٍ، ومكث عنده بأفضل حال ما يقارب العام، حتى هدأت الثائرة وظنَّ من حوله أنه من أهل ذلك اليهودي. وكانَ بين المعافري وبين أبي البسّام الوَزير الإسكندراني معروفٌ ماضٍ وفضلٌ سابق فطمع أن يشفع له عند الْحَكَمِ بنِ هشام. فأوجس اليهودي خوفا واستشعر الغدر على المعاقري من ذلك الوزير، فنصحه وألحَّ عليه أن يبقى آمناً في مكانه معه أبد الدهر. ولكنَّ المعافري أصرَّ حياءً، يغالبه الأمل ويدفعه الرجاء لما سبق من فضله وإحسانه إلى أبي البسام الوزير، فقصده خفيةً بين العشائين، فأظهر أبو البسام القبول، وسأله أين كان قبل. فأخبره فصوّب رأيه في انتقاله إليه، وأظهر فرحه، ووعده الشفاعة له، واسرع بالركوب إلى الحكم بن هشام، وقد وكل به من يحرسه. فقال للأمير: ما رأيك في عجل سمين عاكف على مذودة " الْمَكَانُ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ عَلَفُ الدَّوَابِّ " منذ سنة يلذ مطعمه؟، هذا طالوتُ رأسُ المنافقين عندي، قد أظفرك الله به. فقال الحكم: قم فعجّل به، ووثب فجلس على كرسي بباب مجلسه يشتعل غيظاً ويتميّز، فلم يلبث أن أُدْخِلَ طالوتُ عليه، فجعل يقرِّعه بذنوبه، ويوبّخه على صنيعه. ويقول: طالوتُ، الحمد الله الذي أظفرني بك، ويحك أخبرني لو أن أباك أو ابنك قعدا مقعدي بهذا القصر، أكانا يزيدانك من البر والإكرام على ما فعلتُه بك؟، هل رددتُ قطّ حاجة لك أم لغيرك؟ ألم أشاركك في حلوك ومرِّك؟ ألم أزرك مراتٍ في سكنك؟، ألم أشاركك في حزنك على زوجتك؟، ومشيتُ في جنازتها راجلاً إلى مقبرة الربض؟ وانصرفتُ معك كذلك إلى منزلك؟، وغير ذلك من التوقير والإجلال فعلتُه بك؟، ما حملك على ما قابلتَ به معروفي وفضلي؟ ولم ترض مني إلا بخلع سلطاني وحكمي، وسعيتَ لسفك دمي، واستباحة حرمتي؟ . فقال له طالوت: ما أجدُ لي في هذا الوقت مقالاً أنجى من الصدق وقولِ الحقِّ، أبغضتُك لله وحده. فلم ينفعك عندي كلُّ ما صنعتَه من أمر الدنيا. فسري عن الأمير وسكن غيظه، ومُليء عليه رقةً. ثم التفت إليه قائلاً: والله لقد أحضرتُك، وما في الدنيا عذابٌ إلا وقد عرضتُه اختار بعضَه لك، وقد حيل بيني وبينك، فلتعلم أنَّ الذي أبغضتَني له، صرفني عنك، فانصرفْ في أمان الله تعالى راشداً حيث شئتَ، وارفع إليّ حاجتك متى أردت، فلن تعدم فيّ براً وخيراً، فيا ليت الذي كان لم يكن. فقال له طالوت صدقتَ فلو لم يكن كان خيراً لك، ولا مرد لأمر الله. فلم يزل طالوت لديه بعد مبروراً مكرماً إلى أن توفي، وحضر الحكم جنازته وأثنى عليه بصدقه. وقد روي أن الحكم سأل طالوتاً بعد أن أمنَّه في ذلك المجلس، كيف ظفر بك صاحبُك الوزير؟ قال أنا أظفرتُه بنفسي عن ثقة، لصلةٍ بيني وبينه، ليشفع لي عندك، فكان منه ما رأيتَ. فقال له: فأين كان مثواك قبل؟ فأخبره بخبر اليهودي، فقال الحكم للوزير: سوءةً لك من رجل، يحفظه رجلٌ من غير الملة لمكانه في الدين والعلم، ويفديه بنفسه، وتغدرُ أنتَ به وهو من خيار أهل ملّتك، وأردتَ أن تزيدنا فيما نحن قائمون فيه من سوء الانتقام. أخرج عني قبّحك الله. ولا ترني وجهك، ومنع عنه عطاءه، وطرده من عمله. فسقط آخر الدهر ولم يعد له من ذكر ولا أثر. وقد قيل إن إعلامه إياه بهذا القضية، وتباين ما بين الرجلين، كان سبب عفو الأمير عن طالوت، وانقلاب حقده على الوزير الواشي به روى هذه القصة الذهبي في السيَر، والقاضي عياض في ترتيب المدارك، والمراكشي في المعجب، وابن سعيد في المغرب .. وآخرون !. فلست أدرى مما يكون العجب؛ أمن وفاء اليهودي ؟! أم من خساسة أبي البسام ؟! أم من إنصاف الأمير ؟!( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) .
منقول .