قبل أكثر من عشرين عاماً كلَّفنى أستاذى عبد الوهَّاب مطاوع -رحمه الله- بإجراء تحقيق عن مدينة البعوث الإسلامية، وقضيت يوما كاملاً داخل أسوار المدينة، وتحدثت مع العشرات من أعضاء البعثات المختلفة التى جاءت إلى مصر من كل دول العالم لتتلقى تعاليم الإسلام فى الأزهر الشريف، وكنت فى كل لحظة أشعر بالفخر، وقد ترسخ فى ذهنى -بشكل عملى- دور مصر الريادى فى نشر الدعوة الإسلامية فى العالم أجمع.
تذكرت هذا وأنا أتابع طوفان التصريحات التى تدّعى أن مصر دولة علمانية بالفطرة، والتى يبدو أصحابها وكأنهم قد أفاقوا للتو من سبات عميق لم يروا فيه دور مصر فى نشر الدعوة الإسلامية، ولا مساجد مصر التى تمتلئ بالمصلين فى الصلوات الخمس، ولا حتى دساتير الدولة المتعاقبة والتى لم تتغير مادتها الثانية التى تقول إن الإسلام دين الدولة، وإن اللغة العربية لغتها الرسمية، وإن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع.
الغريب أن يأتى من يمثل الدولة ويقول ما يخالف دستورها وقوانينها، ولن أحيله إلى ما قاله العلماء فى تعريف "الدولة الإسلامية"، لكنى سأتحدث معه بلغته، وأسأله: ألم تُقْسم على احترام ذلك الدستور الذى ينص على أن مصر دولة إسلامية؟! ألم تقبل منصبك بناء على هذا الدستور؟!
وتبع هذا المسئول فى كلامه بعض ممن يدَّعون أنهم يدافعون عن الدولة، والحقيقة أنهم لا يدافعون إلا عن أحلامهم، فلو حققتها الدولة فسيكونون معها، ولو خالفتها فإن مصالحهم الشخصية تغلب على أفكارهم، ويتحولون إلى وحوش كاسرة على استعداد لأن تطيح بكل ما يقف أمام طموحاتها، حتى لو ضحوا بمصر ومصالحها وقوانينها.
ويتخفى هؤلاء وراء مواجهة ما يسمونه بـ"الإسلام السياسى" وفى هذه المواجهة يطعنون –بكل خبث- فى ثوابت الدين الإسلامى، وكأن عداءهم للإخوان يبيح لهم أن يأخذوا فى طريقهم كل ما يمت للإسلام بصلة، أو بالأحرى، وإن شئنا الدقة، فإنهم يستغلون خطايا الإخوان ومدعى السلفية من حزب النور لمحاولة إلغاء هوية الدولة.. لكنهم لن يتمكنوا ولو بذلوا أعمارهم فى سبيل تحقيق ذلك.
إن ما يحدث فى مصر يؤكد الحقيقة التى لن أملَّ من تكرارها، وهى أن من كانوا فى ميدان التحرير أيام نكسة يناير كانت تسيطر عليهم المصلحة، وأن غرضهم الأول كان مصالح شخصية وتوجهات تتخفى وراء شعارات دينية واجتماعية وسياسية خدعوا بها البسطاء الذين صدقوهم ثم كشفوا حقيقة أطماعهم بعد ذلك، سواء الإخوان أو العلمانيين أو مدعى الوطنية من أعضاء الجماعات أمثال 6 إبريل وغيرها، فقد كان الشعب يريد أن يحيا حياة كريمة، بينما كانوا هم يريدون المناصب والنفوذ وامتلاك مقادير الدولة، معتقدين أنهم سيخدعون الناس أبد الدهر، ولكن هيهات هيهات أن يحدث ذلك.
ولكى يتأكدوا مما أقول فعليهم أن يتابعوا رد فعل رجل الشارع البسيط على ادعاءاتهم، ذلك الرجل الذى اعتاد على بدء يومه بصلاة الفجر وأذكار الصباح، وأن يختمه بقراءة سورتى "المُلك" و"الواقعة"، وتلك السيدة البسيطة التى ارتدت الحجاب "بالفطرة"، وأتحدى أن يستطيعوا مواجهتهم بتلك الادعاءات الكاذبة.
وإن لم يتمكنوا من النزول من أبراجهم العاجية للتواصل مع رجل الشارع، فيمكنهم أن يتابعوا ردود أفعال القراء الذين علَّقوا على ادعاءاتهم فى المواقع الإلكترونية، حينئذ سيعلمون أنهم لن يتمكنوا بمناصبهم ولا بنفوذهم ولا بأقلامهم من تغيير المصريين.. وأن مصر كانت وستبقى دولة إسلامية بالفطرة ولو كره الكارهون.