الشيخ صلاح نجيب الدق
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وجعل أمتَنا خير أمةٍ، وبعث فينا رسولًا منا يتلو علينا آياته، ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ، الذي أرسله ربه شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أما بعد: فإن المعاصيَ لها أثرها السيئ؛ فهي تزيل النِّعَم عن الفرد والمجتمع، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
آثار المعاصي على الإنسان:
قال الله - جل وعلا -: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].
ويمكن أن نوجز آثار المعاصي على الإنسان في الأمور التالية: (1) المعاصي سبب غضب الله على صاحبها:
روى مسلم عن علي بن أبي طالبٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدِثًا، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غيَّر المنارَ "أي حدود الأرض"))؛ (مسلم حديث: 1978).
روى مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله السارق؛ يسرق البيضةَ فتُقطع يده، ويسرق الحبل فتُقطع يده))؛ (مسلم حديث: 1687).
روى أبو داود عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الخمرَ، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومُبْتاعها، وعاصرها، ومعتصِرها، وحاملها، والمحمولة إليه))؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث 3121).
(2) المعاصي تُذِلُّ صاحبها:
المعصية تورث الذل ولا بد؛ فإن العزَّ كل العز في طاعة الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ [فاطر: 10].
أي: فليطلبها بطاعة الله؛ فإنه لا يجدها إلا في طاعة الله، وكان مِن دعاء بعض السلف: اللهم أعِزَّني بطاعتك، ولا تُذِلَّني بمعصيتك؛ (الجواب الكافي - لابن القيم - ص- 86).
(3) المعاصي سبب نسيان العلم:
العلم نور يقذِفه الله تعالى في القلب، والمعصية تُطفئ ذلك النور. • قال عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه: (إني لأحسب أن الرجلَ ينسى العلم قد علِمه بالذنب يعمَله)؛ (جامع بيان العلم - لابن عبدالبر - ج- 1- ص- 675 - رقم: 1195). • كان الإمام أبو حنيفة إذا أشكَلت عليه مسألة قال لأصحابه: ما هذا إلا لذنبٍ أحدثتُه، وكان يستغفر، وربما قام وصلى، فتنكشف له المسألة، ويقول: رجوتُ أني تِيبَ علَيَّ؛ (الجواهر المضية - محيي الدين الحنفي - ج- 2 - ص- 478). • قال علي بن خشرم: رأيت وكيع بن الجراح وما رأيتُ بيده كتابًا قط، إنما هو يحفظ، فسألتُه عن دواء الحفظ، فقال: تركُ المعاصي، ما جرَّبْتُ مِثلَه للحفظ؛ (تهذيب التهذيب - لابن حجر العسقلاني - ج- 2 - ص- 129).
قال مالك بن أنس للشافعي: إن اللهَ ألقى على قلبك نورًا، فلا تُطفئه بظُلمة المعصية؛ (تهذيب الأسماء - للنووي - ج- 1 - ص- 47).
(4) المعاصي تُميت القلوب: المعاصي لها آثار خطيرة على القلوب أعظمَ مِن آثار الآلام على الأبدان؛ فهي تجلب الهمومَ والأحزان، وعندما تكثر المعاصي فإنها تُميت القلب، فيصبح لا خيرَ فيه.
قال سبحانه: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الزمر: 22].
(5) المعاصي سببُ قلة الرزق والبركة عند صاحبها:
إن العبدَ ليُحرَم الرزق بالذنب يُصيبه، وتمحق البركة مِن عندِه في كلِّ شيءٍ.
قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].
روى أبو نُعَيمٍ عن أبي أمامة الباهلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن رُوحَ القدس نفَث في رُوعي (أوحى إليَّ) أنَّ نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها؛ فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلب، ولا يحملَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرزق أن يطلبه بمعصيةٍ؛ فإن اللهَ لا ينال ما عنده إلا بطاعتِه))؛ (حديث صحيح) (صحيح الجامع - للألباني - حديث: 2085).
(8) المعاصي تجعَل صاحبها ينسى نفسه:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الحشر: 18، 19].
أمَر الله تعالى بتقواه، ونهى أن يتشبه عباده المؤمنون بمن نسيه بترك تقواه، وأخبر أنه عاقب مَن ترك التقوى بأن أنساه نفسه؛ أي: أنساه مصالحها، وما ينجيها من عذابه، وما يوجب له الحياة الأبدية، وكمال لذتها وسرورها ونعيمها، فأنساه الله ذلك كله جزاءً لما نسيه مِن عظمته وخوفه، والقيام بأمره، فترى العاصي مهملًا لمصالح نفسه، مضيِّعًا لها، قد أغفل اللهُ قلبَه عن ذِكره، واتبع هواه، وكان أمره فرطًا، قد انفرطت عليه مصالحُ دنياه وآخرته، وقد فرَّط في سعادته الأبدية، واستبدل بها أدنى ما يكون من لذةٍ، إنما هي سحابةُ صيفٍ.
وأعظم العقوبات نسيان العبد لنفسه، وإهماله لها، وإضاعته حظَّها ونصيبها من الله، وبيعها ذلك بالغَبْن والهوان، وأبخس الثَّمن؛ (الجواب الكافي - لابن القيم - ص- 100).
(9) المعاصي تجعل صاحبها مفلِسًا من الحسنات:
روى مسلم عن أبي هريرة: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون ما المُفلِس؟)) قالوا: المفلس فينا مَن لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إن المُفلِس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاةٍ، وصيامٍ، وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دمَ هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار))؛ (مسلم حديث: 2581).
(11) المعاصي تزرع المعاصيَ في قلب صاحبها:
روى ابن ماجَهْ عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن المؤمنَ إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر، صُقل قلبه، فإن زاد زادت، فذلك الران (الطَّبْع) الذي ذكره الله في كتابه: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]))؛ (حديث حسن) (صحيح ابن ماجه - للألباني - حديث: 3422).
• قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: المعاصي تزرع أمثالها، وتولد بعضها بعضًا، حتى يَعِزَّ على العبد مفارقتها والخروج منها، كما قال بعض السلف: إن مِن عقوبة السيئةِ السيئةَ بعدها، وإن من ثواب الحسنةِ الحسنةَ بعدها؛ فالعبد إذا عمل حسنةً قالت أخرى إلى جنبها: اعملني أيضًا، فإذا عملها، قالت الثالثة كذلك، فتضاعف الربح، وتزايدت الحسنات، وكذلك كانت السيئات أيضًا، حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئاتٍ راسخةً، وصفاتٍ لازمةً، وملَكاتٍ ثابتةً، فلو عطَّل المحسن الطاعة لضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأحسَّ من نفسه بأنه كالحوت إذا فارق الماء، حتى يعاودها، فتسكُنَ نفسُه، وتقَرَّ عينه، ولو عطَّل المجرم المعصية وأقبل على الطاعة، لضاقت عليه نفسه، وضاق صدره، وأعيت عليه مذاهبه، حتى يعاودها، حتى إن كثيرًا من الفسَّاق ليواقع المعصية من غير لذةٍ يجدها، ولا داعيةٍ إليها، إلا بما يجد من الألم بمفارقتها؛ (الجواب الكافي - لابن القيم - ص- 81).
ختامًا:
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة؛ ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به جميع المسلمين.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.
وصلى الله وسلَّم على سيدنا محمدٍ، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.