كلما زرت منزل والدي والتقيت أخي الأصغر ، الذي يدرس في المرحلة الثانوية ، باغته بحديث أكرره حتى كاد أن يحفظه من فرط ترديدي له على مسامعه ، وهو : امنح والديك وقتك . سيأتي وشيكا اليوم الذي تتوقف فيه علاقتك بأصدقائك الذين تقضي معهم آناء الليل وأطراف النهار . ربما لن تعرف تخصصاتهم التي يدرسونها في الجامعة غدا بعد أن كنت تعرف اسم كل وجبة كانوا يتناولونها اليوم. ستبعدكم اهتماماتكم المستقبلية عن بعض . ستزيد الفروقات الثقافية والفكرية بينكم حتى يصعب تواصلكم . مصيرك يا أخي مصعب العودة إلى أحضان أمك وأبيك . فكن بجوارهما الآن قبل الغد . كنت أتلو عليه هذه النصيحة مستندا إلى تجربتي الشخصية . إذ كلما تقدمت في العمر أصبحت أكثر رغبة في البقاء بجوار والدي وأسرتي . أتعذب من كثرة الندم عندما أتذكر غيابي عنهم لسنوات بسبب أصدقاء لم يعد لهم ذكر أو قيمة في حياتي اليوم . حينما ألتقي الأصدقاء القدامى بالصدفة أستعيد معهم الذكريات اللطيفة التي جمعتنا . لكن سرعان ما نودع بعضا بعد أن نأخذ أرقام بعضنا للمرة الألف دون أن نتصل على بعض . اكتشفت فقط أخيرا أن ما أعانيه وأنقله مرارا بألم إلى شقيقي هو نظرية علمية مهمة في علم النفس تدعى : Socioemotional selectivity theory وهي نظرية تسلط الضوء على الانتقائية العاطفية الاجتماعية . إذ تناقش هذه النظرية انحيازنا كلما تقدمنا في العمر إلى عواطفنا . تتراجع علاقاتنا مع الأصدقاء وترتفع مع الوالدين والإخوة. يصبح الكثير من الصداقات في عداد الماضي . نعود تلقائيا إلى جذورنا . إلى أمهاتنا وآبائنا . يصبح الشاي الذي نشربه بمعيتهما أشهى مشروب . ويضحى لقاؤهما هو المُنَى . عندما نكبر نتمنى أن نعود أطفالا لنلهو في أحضانهما الدافئة. وتشير النظرية إلى أننا كلما كبرنا زهد معظمنا في اللقاءات العامة . صرنا نفضل اللقاءات الخاصة الحميمية التي يتوافر فيها أقرب الأقربين لنا على كل شيء . إذ يصبح الجلوس معهم الجنة التي نترقبها وتهفو قلوبنا نحوها . شعور يناقض الشعور الذي يعترينا في سنوات يفوعتنا ومراهقتنا التي تساورنا فيها مشاعر متذبذبة تجاه أسرتنا وساخنة ومثيرة تجاه أصدقائنا وزملائنا . يا أصدقائي ، لم ننتظر حتى نهرم لنعود إلى آبائنا ؟ لنعود إليهم اليوم . قبل أن يرحلوا ويقتلنا الندم .