( المداراه في الإسلام أو كما يسميها الغير مطلع بالكتاب والسنه المجاملة )
فهذا موضوع مهم يحتاج إليه كل المسلمون , وفقهم الله لما يحب ويرضى , وهو عن خلق نبيل
معنى المداراة لغة واصطلاحا
معنى المداراة لغة:
قال ابن منظور: (الدرء: الدفع. درأه يدرؤه درءا ودرأة: دفعه. وتدارأ القوم: تدافعوا في الخصومة ونحوها واختلفوا
معنى المداراة اصطلاحا:
قال ابن بطال: (المداراة: خفض الجناح للناس، ولين الكلام وترك الإغلاظ لهم في القول)
الفرق بين المداراة والمداهنة
قال ابن بطال: (المداراة مندوب إليها والمداهنة محرمة والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه والإنكار عليه بلطف القول والفعل ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك)
وقال القرطبي في الفرق بينهما: (أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا وهي مباحة وربما استحبت والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا)
وقال الغزالي: (الفرق بين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإغضاء؛ فإن أغضيت لسلامة دينك ولما ترى من إصلاح أخيك بالإغضاء فأنت مدار وإن أغضيت لحظ نفسك واجتلاب شهواتك وسلامة جاهك فأنت مداهن)
الحث على المداراة من القرآن الكريم:
- قال تعالى: واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا [41 - 47].
قال السعدي: (وفي هذا من لطف الخطاب ولينه، ما لا يخفى، فإنه لم يقل: (يا أبت أنا عالم، وأنت جاهل) أو (ليس عندك من العلم شيء) وإنما أتى بصيغة تقتضي أن عندي وعندك علما، وأن الذي وصل إلي لم يصل إليك ولم يأتك، فينبغي لك أن تتبع الحجة وتنقاد لها)
- وقوله تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون [لقمان: 14 - 15].
- وقال سبحانه: اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى [طه: 43 - 47].
قال ابن كثير: (هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين) (9).
الحث على المداراة من السنة النبوية:
- عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال صلى الله عليه وسلم: ((ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة. فلما دخل ألان له الكلام. فقلت له: يا رسول الله، قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول. فقال: أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه)) (10). (أي لأجل قبح فعله وقوله أو لأجل اتقاء فحشه أي مجاوزة الحد الشرعي قولا أو فعلا وهذا أصل في ندب المداراة إذا ترتب عليها دفع ضر أو جلب نفع بخلاف المداهنة فحرام مطلقا إذ هي بذل الدين لصلاح الدنيا والمداراة بذل الدنيا لصلاح دين أو دنيا بنحو رفق بجاهل في تعليم وبفاسق في نهي عن منكر وتركه إغلاظ وتألف ونحوها مطلوبة محبوبة إن ترتب عليها نفع فإن لم يترتب عليها نفع بأن لم يتق شره بها كما هو معروف في بعض الأنام فلا تشرع) (11).
- وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مداراة الناس صدقة)) (12).
- وقال صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا)) (13).
قال ابن حجر: (وفي الحديث الندب إلى المداراة لاستمالة النفوس وتألف القلوب وفيه سياسة النساء بأخذ العفو منهن والصبر على عوجهن وأن من رام تقويمهن فإنه الانتفاع بهن مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معاشه فكأنه قال الاستمتاع بها لا يتم إلا بالصبر عليها) (14).
- وعن هاني بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن موجبات المغفرة بذل السلام وحسن الكلام)) (15).
قال المناوي: (أي إلانة القول للإخوان واستعطافهم على منهج المداراة لا على طريق المداهنة والبهتان) (16).
- وقال صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس اتقوا الله، وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع فاسمعوا له، وأطيعوا ما أقام لكم كتاب الله)) (17).
قال المباركفوري: (فيه حث على المداراة والموافقة مع الولاة وعلى التحرز عما يثير الفتنة ويؤدي إلى اختلاف الكلمة) (18).
أقوال السلف والعلماء في المداراة
- عن أبي الدرداء، قال: (إنا لنكشر في وجوه أقوام ونضحك إليهم، وإن قلوبنا لتلعنهم) (19).
- وعنه أيضا رضي الله عنه قال لزوجته: (إذا غضبت فرضيني، وإذا غضبت رضيتك فإذا لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق) (20).
- وقال معاوية رضي الله عنه: (لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، قيل: وكيف؟ قال: لأنهم إن مدوها خليتها، وإن خلوا مددتها) (21).
- وعن عمر بن الخطاب قال: (خالطوا الناس بالأخلاق وزايلوهم بالأعمال) (22).
- وقال عبد الله بن مسعود: (خالط الناس وزايلهم ودينك لا تكلمنه) (23).
- وعن محمد بن الحنفية، قال: (ليس بحليم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدا، حتى يجعل الله له فرجا، أو قال: مخرجا) (24).
- وقال الحسن البصري: (كانوا يقولون: المداراة نصف العقل، وأنا أقول هي العقل كله) (25).
- وعنه أيضا: (المؤمن يداري ولا يماري , ينشر حكمة الله , فإن قبلت حمد الله , وإن ردت حمد الله) (26).
- وعن يحيى بن سعيد، قال: قال لي نصر بن يحيى بن أبي كثير: (من عاشر الناس داراهم ومن داراهم راياهم) (27).
- وعن يونس، قال: بلغني عن ابن عباس، أنه كان يقول: (النساء عورة خلقن من ضعف، فاستروا عوراتهن بالبيوت وداروا ضعفهن بالسكوت) (28).
- وقال أبو يوسف: (خمسة تجب على الناس مداراتهم الملك المسلط والقاضي المتأول والمريض والمرأة والعالم ليقتبس من علمه) (29).
- وعن وهيب بن الورد قال: (قلت لوهب بن منبه: إني أريد أن أعتزل الناس، فقال لي: لا بد لك من الناس وللناس منك؛ لك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصما سميعا أعمى بصيرا سكوتا نطوقا) (30).
- قال محمد بن السماك: (من عرف الناس داراهم، ومن جهلهم ماراهم، ورأس المداراة ترك المماراة) (32).
فوائد المداراة:
1 - المداراة تزرع الألفة والمودة.
2 - المداراة تجمع بين القلوب المتنافرة.
3 - المداراة تطفئ العداوة بين الناس.
4 - المداراة من صفات المؤمن والمداهنة من صفات المنافق (34).
5 - علامة على حسن الخلق (35).
6 - من عوامل إنجاح الدعوة إلى الله.
إما بهداية من يداريه الداعية أو بكفاية شره وفتح مجالات أوسع للدعوة.
7 - تحقيق السعادة الزوجية (36).
8 - تحقيق السلامة والأمن والطمأنينة للنفس (37).
9 - العصمة من شر الأعداء (38).
قال ابن الجوزي: (من البله أن تبادر عدوا أو حسودا بالمخاصمة؛ وإنما ينبغي إن عرفت حاله أن تظهر له ما يوجب السلامة بينكما، إن اعتذر قبلت، وإن أخذ في الخصومة صفحت، وأريته أن الأمر قريب، ثم تبطن الحذر منه، فلا تثق به في حال، وتتجافاه باطنا، مع إظهار المخالطة في الظاهر) (39).
صور المدارة
صفة المداراة ليست صفة دائمة إنما يحتاج إليها في التعامل مع بعض الأشخاص والمواقف والأوقات ومن ذلك.
1 - صيانة النفس من أهل الفجور والشرور:
فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه)) (40). وهذا فيما لابد من مخالطته.
2 - في تعامل الإمام مع الرعية:
قالت أم المؤمنين عائشة أخبرته أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال صلى الله عليه وسلم: ((ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة. فلما دخل ألان له الكلام. فقلت له: يا رسول الله، قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول. فقال: أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه)) (41).فليس كل الرعية على نمط واحد، من حسن الخلق والمعشر، إنما الناس يختلفون فيحتاج الإمام للمداراة، وهذا يكون من الإمام جمعا للأمة ورأفة بها وإرشادا للضال وتعليما للجاهل لاسيما إن كان هؤلاء من أهل الرياسات والأتباع فيداري الإمام مراعاة لمصلحة الأمة كلها (42).
3 - الخوف من الكفار والعجز عن مقاومتهم:
قال تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة [آل عمران: 28].
قال الشنقيطي: (هذه الآية الكريمة فيها بيان لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقا وإيضاح ; لأن محل ذلك في حالة الاختيار، وأما عند الخوف والتقية، فيرخص في موالاتهم، بقدر المداراة التي يكتفي بها شرهم، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة) (43).
4 - في دعوة الناس والسلطان (44):
قال تعالى: اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [طه: 43 - 44].
فغالب حال هؤلاء الكبر والأنفة من قبول النصح المباشر أو الغلظة في الخطاب لما يرى لنفسه من عز وسلطان فالأولى في حقه المداراة واللين وهي الرفق به في الخطاب حتى يرجع إلى الحق أو يكفي شره دون تنازل عن ثوابت الدين فهناك فرق بين التدرج في الدعوة وبين التنازل عن ثوابت الدين (45).
5 - المداراة مع الوالدين:
قال تعالى: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون [العنكبوت: 15].
6 - المداراة مع الزوجة محافظة على الحياة الزوجية:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المرأة كالضلع، إن أقمتها كسرتها، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج)) (46).
7 - المداراة مع النفس:
بحملها على الطاعة بذكر نعيم الجنة وكفها عن المعصية بذكر عذاب النار.
قال ابن الجوزي: (ومن فهم هذا الأصل، علل النفس، وتلطف بها، ووعدها الجميل، لتصبر على ما قد حملت، كما كان بعض السلف يقول لنفسه: والله، ما أريد بمنعك من هذا الذي تحبين إلا الإشفاق عليك ... واعلم أن مداراة النفس والتلطف بها لازم، وبذلك ينقطع الطريق) (47).
موانع اكتساب المداراة
1 - العجلة والطيش وسرعة الغضب والانتصار للنفس.
هذه الأمور كلها تفقد الإنسان التأني والتفكر في أفضل الطرق للتعامل مع الشخص أو الموقف بالاعتماد في ذلك على قاعدة مراعاة المصالح ودرء المفاسد.
2 - عدم تفهم الواقع وطبائع الناس.
3 - سوء الخلق وغلظة القلب.
4 - الكبر وضعف إرادة الخير للناس.
5 - قلة الصبر والحلم والرفق.
6 - العزلة عن الناس.
فالمداراة إنما يحتاجها من يخالط الناس لا من يعتزلهم.
الوسائل المعينة على اكتساب صفة المداراة
1. التحلي بخلق الصبر
2. النظر للمصالح المترتبة على المداراة (49).
3. التحلي بخلق الرفق والرحمة.
فإن المداراة قائمة على الرفق لتحقيق المراد من صلاح معوج أو كفاية شر عدو ونحوه (50).
4. فهم الواقع ومعرفة طبائع الناس.قال ابن الجوزي: (لينظر المالك في طبع المملوك، فمنهم: من لا يأتي إلا على الإكرام، فليكرمه، فإنه يربح محبته. ومنهم: من لا يأتي إلا على الإهانة، فليداره، وليعرض عن الذنوب؛ فإن لم يكن، عاتب بلطف، وليحذر العقوبة ما أمكن. وليجعل للمماليك زمن راحة. والعجب من يعني بدابته، وينسى مداراة جاريته) (51). قال بشر بن الحارث: (من عرف الناس استراح) (52).
5. احتساب الأجر في دعوة الخلق:
من يتصدر لدعوة العصاة وأهل الشرور والكفر لابد أن يناله منهم أذى مما قد يدفع الداعية لترك دعوتهم لذا فاحتساب الداعية للأجر عند الله في مداراته لأهل الكفر والفجور والتحبب لهم من غير إقرار بمعصية أملا في هدايتهم مما يعين الداعية على تحمل الأذى.
6. تقديم ترك الانتصار للنفس في حال القدرة وحفظ النفس في حال العجز:
في الحالة الأولى استبقاءا للود والمسير قدما في الإصلاح وفي الحالة الثانية عصمة النفس ودفع الشرور.
قصص في المداراة :
وشكا رجل إلى مخلد بن الحسين رجلا من أهل الكوفة فقال: (أين أنت عن المداراة , فإني أداري حتى أدارى، هذه جارية حبشية تغربل شعير الفرس له , ثم قال: ما تكلمت بكلمة أريد أن أعتذر منها منذ خمسين سنة) (54).
الشعر في المداراة :
وقال أحمد الخطابي:
ما دمت حيا فدار الناس كلهم ... فإنما أنت في دار المداراة
من يدر دارى ومن لم يدر سوف يرى ... عما قليل نديما للندامات (58)
وقال القاضي التنوخي:
الق العدو بوجه لا قطوب به ... يكاد يقطر من ماء البشاشات
فأحزم الناس من يلقى أعاديه ... في جسم حقد وثوب من مودات
الرفق يمن وخير القول أصدقه ... وكثرة المزح مفتاح العداوات (59)
وقال زهير:
ومن لم يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم (60)
وقال النمر بن تولب:
وأبغض بغيضك بغضا رويدا ... إذا أنت حاولت أن تحكما
وأحبب حبيبك حبا رويدا ... فليس يعولك أن تصرما (61)
وقال علي بن محمد البسامي:
دار من الناس ملالاتهم ... من لم يدار الناس ملوه
ومكرم الناس حبيب لهم ... من أكرم الناس أحبوه (62)
وقال آخر:
تجنب صديق السوء واصرم حباله ... وإن لم تجد عنه محيصا فداره
وأحبب حبيب الصدق واحذر مراءه ... تنل منه صفو الود ما لم تماره (63)