المرجع : كتاب ( ثمرات الأوراق )
لمؤلفه : تقي الدين ابي بكر بن على بن محمد ابن حجة الحموي .
ويضارع ذلك في المستجاد أيضاً ما رُويَ عن أبي موسى بن الفضل بن يعقوب كاتب عيسى بن جعفر , قال : حدثنى أبي قال : كنت أتردد إلى زينب بنت سليمان بن على بن عبدالله بن عباس وأخدمها , فتوجّتُ إلى خدمتها يوماً فقالت : أقعد أحدثك حديثاً كان بالأمس يكتب على الآماق , كنت أمس عند الخيزران , ومن عادتى أ جلس بإزائها وفي الصدر مجلس للمهدي يجلس فيه , وهو يقصدنا في كلّ وقت , فيجلس قليلاً ثم ينهض .
فبينما نحن كذلك , إذ دخلت علينا جارية من جواريها , فقالت : أعزّ الله السيدة ! بالباب امرأة ذات جمال وخلقة حسنة , وليس وراء ماهى عليه من سوء الحال غاية , تستأذن عليك , وقد سألتها عن اسمها فامتنعت ان تخبرنى , فالتفتتْ إلى الخيزران وقالت : ماترين ؟ فقلت : أدخليها فأنه لابد من فائدة أو ثواب
فدخلت امرأة من أجمل النّساء , لاتوارى بشيء ( الله أعلم أنها عريانة وهذا ما يؤكده سياق القصة ) , فوقفت بجنب عضادتَي الباب , ثم سلّمت متضائلة , ثم قالت : أنا مُزْنَة بنت مروان بن محمد الأموي , فقالت الخيزان : لاحياك الله ولا قربك ! فالحمد لله الذي قد أزال نعمتك , وهتك سترك وأذلك ! أتذكرين يا عدوّة الله حين أتاك عجائز أهل بيتى يسألنك أن تكلمي صاحبك في الإذن في دفن إبراهيم بن محمد فوثبت عليهن , وأسمعتِيهٍنَّ ما لا سمعن قبل , وأمرن فأخرجن على الحالة التى أخرجن عليها ؟
فضحكت مزنه - فما أنسى حسن ثَغْرِها وعُلوَّ صوتها بالقهقهة - ثم قالت يا ابنة العمّ , أي شيء أعجبك من صنيع الله بي على العقوق حتى أردت أن تتأسّيْ بي فيه !
فوالله إني فعلت بنسائك ما فعلت , فأسلمني الله ذليلة ً جائعه عُريانه , وكان ذلك مقدار شكرك لله تعالى على ما أولاك فيّ ! ثم قالت : السلام عليكم , ثم ولت مُسرعة , فصاحت الخيزران فرجِعتْ .
قالت زينب : فنهضتْ إليها الخيزران لتعانقها , فأمتنعت مزنة وقالت : ليس فيّ لذلك موضع مع الحال التى أنا عليها , فقالت الخيزران . فالحمام إذاً , وأمرت جماعة من جواريها بالدّخول معها إلى الحمام , فدخلت وطلبت ماشطه ترمى ما على وجهها من الشعّر .
فلما خرجت من الحمام وافتها بالخِلع والطيب , فأخذت من الثياب ما أرادت , ثم تطيبت , ثم خرجت إلينا , فعانقتها الخيزران , وأجلستها في الموضع الذي يجلس فيه أمير المؤمنين المهدي , ثم قالت الخيزران : هل لك في الطعام ؟ فقالت : والله ما فيكن أحوج منى إليه , فعجلوه , فأتِي بالمائدة , فجعلت تأكل غير محتشمة إلى أن اكتفت , ثم غسلنا أيدينا , فقالت لها الخيزان : من وراءك ممن تعنين به ؟ قالت : ما خارج هذه الدار بيني وبينه سبب . فقالت : إذا كان الأمر هكذا فقومي حتى تختاري لنفسك مقصورة من مقاصيرنا , وتحوّلي لها ما تحتاجين إليه , ثم لا نفترق إلى الموت . فقامت , ودارت بها في المقاصير , فاختارت أوسعها وأنزهها , ولم تبرح حتى حوّلت إليها جميع ما تحتاج إليه من الفراش والكسوة .
قالت زينب : ثم تركناها وخرجنا عنها , فقالت اخيزران : هذه المرأة قد كانت فيما كانت فيه , وقد مسّها الضر , وليس يغسل ما في قلبها إلاّ المال , فاحملوا إليها خمسمائة ألف درهم فحملت إليها .
وفي غضون ذلك وافَى المهدي , فسألنا عن الخبر , فحدّثته الخيزران حديثها , وما لقيتها به , فوثب مغضباً وقال للخيزران : هذا مقدار شكر الله على أنْعـــمه , وقد مكّنك من هذه المرأة مع الحالة التى هي عليها ! فوالله لولا محلُّك في قلبي لحلفتُ أن لا أكلمك أبداً !
فقالت الخيزران : يا أمير المؤمنين , قد اعتذرت إليها ورضيت , وفعلتُ معها كذا وكذا .
فلمّا علم المهديّ ذلك قال لخادمٍ كان معه : احمل إليها مائة بدرة , وادخُل إليها , وأبلغها مني السلام , وقل لها : والله ما سررت ُ في عمري كسروري اليوم , وقد أوجب عليّ أمير المؤمنين إكرامك , ولولا أنه يكره احتشماكِ لحضر إليك مسلّماً عليك , وقاضيا لحقّك .
فمضى الخادم بالمال والرسالة , فأقبلت على الفور , فسلمت على المهدي بالخلافة , وشكرت صنيعه , وبالغت في الثناء على الخيزران عنده , وقالت : ما على أمير المؤمنين حشمة , أنا في عُددِ حُرمه , ثم قامتْ إلى منزلها
فخلّفتُها عند الخيزران وهي تتصرف في المنازل والجواري كتصرف الخيزران . فأرّخها عندك فإنها من أحسن النوادر .