الكتابة عندي لحظة شعور بشيء؛ قد أغضب فأكتب، وقد أطرب فأكتب، وقد أحزن فأكتب، وقد أنتشي فأكتب!
أقرب مقالاتي إلى قلبي هي تلك التي حملتها في صدري ثم بعد ذلك زفرتها بمسافة ما خططتها على الورق!
من ينجح في ولادة حرفه هو ذاك الذي حمله في جوفه؛ ولذا: إياك من الولادة قبل الحمل؛ لئلا يجيء ابنك خديجًا!
ثمّ إنّه ..
ما أكثرهم أولئك الذين لا يُفرقون بين الماجن والعاشق؛ ولذا تستقبح نفوسهم صدد هذا الحديث، ولو علموا الفرق بين "المغزلجي" والمُصاب لأقلّوا من اللوم!
ثمّ إنّه العشق: سمُّ الجسد، وعذاب الروح، واختلاط الذهن!
وهو العشق: حياةٌ خارج الحياة، وهندام خارج الزي، ولهوٌ يتراقص بين الحرام والحلال!
وهو العشق: سمٌ زعاف، إلاّ أنّه لا يُحيي ولا يُميت؛ ولعلّه نفَسٌ من جهنم: "يتجرعه ولا يكاد يُسيغه ويأتيه الموت من كل مكانٍ وما هو بميت".
هو نُبهة الغافل، وخمول النبيه!
وهو لذّة الجمهور؛ وعذاب اللاعبين!
وهو الحدائق: تضطرم في جوفها الحرائق!
إنّه العشق: الداء الشهي الذي صنّف فيه وعنه السادة الفقهاء بين مستملح لأخباره ومستعيذ من أحواله!
فكتب له وعنه: ابن حزم، وابن القيم، وابن الجوزي، وفقيه الظاهرية!
وهو أيضاً الذي قد حار الأطباء والفلاسفة في معرفة كنهه والوصول إلى قعره!
ولكنّه – أيضاً - العشق: لا لوم فيه على مبتلى، ولا ضغينة على ظاعن، ولا عذل على قتل!
ولأني .. لأني صاحبُ أرواحٍ لا تنقضي: فقد وجدتُ من نفسي خِفّة لأنْ أصوغ قصصه الشهيرة بقوالبي الأدبية الفقيرة!
لذا؛ احذر هذه المقطّعات الأدبية: فإنك لن ترى فيها غير محموم روح! ولن تشهدَ إلاّ قتيل شَهْد! ولن تتذوق سوى غاية الذَوق!
.
.
.
- 1 -
يَنْضُرُ وَجْهُ الإنسانِ كلما نَضرت الأرض حوله؛ أمّا لمه؟ فلأنَّ الوجهَ مرآةُ المحيط!
إني ذكرتُكِ بالزهراء مُشتاقا = والأُفقُ طلق ومرأى الأرض قد راقا
وقد رقّ من رَوقِهِ قلبُ الشاعر فذابا !
كم أرأف لك يا ابن زيدون جِدا؛ فقد كنتَ بين فردوسين (الأندلس والأميرة ولّادة) والعيش على "الأعراف" مُقلق جدا!
وقد كنتَ في اضطرابٍ أبدا؛ فالجميلة التي في قلبك ( ولّادة بنت المستكفي) تضطرب من الجميلة التي في عينك (قرطبة) !
فردوسٌ يُغري بفردوس، وجنّةٌ لا تُحارب جَنّةً؛ وإنما تُذكر بها: أنْ تَضِلَّ عن أخرى أجمل منها!
ولذا؛ فقد بتَّ تقطرُ صبابةً وتنزفُ شهدا:
ودّع الصبرَ محبٌّ ودّعك = ذائعٌ مِن ِسرّه ما اِستودَعك
يقرَعُ السِنَّ على أَن لم يكن = زادَ في تلك الخُطى إذْ شيّعك
يا أَخا البدرِ سَناءً وسَنَاً = حفِظَ اللَه زمانًا أطلَعك
إن يطُل بَعْدكَ ليلي فَلَكَم = بِتُّ أَشكُو قِصَرَ الليلِ مَعك
وكم لا غرابة -بعد هذا- أن تكون النضارة والندى في كل شيءٍ إلاّ كبدكَ الولهى المشتاقة:
وهكذا هم العشّاق؛ يرسمونَ الجنّةَ بجمرةِ الحب ..!!
رحمك الله يا ابن زيدون؛ فقد عشِقتَ " الربيعَ " إلى أنِ اصفررتَ هشيما!
ورحمني الله ؛ فلكأني موكلٌ بدموع من لا أعرف!
.
.
.
- 2 –
وأنا التي لعب الغرام بقلبها = فبكت لحب محمد بن القاسم !
قولٌ بسيط هادئ، وألفاظ عادية مركبة؛ ولكنها تحمل بانتظامها ناراً خافتة: تُنضج القلب على مهل، وتُحرق الكبد من لوعة!
جارية من جواري المدينة؛ تطحنُ الحَبَّ بيدها؛ ويطحنُ القلبَ حُبُها!
حبٌ شفيف نظيف: قد شفّ قلبها، وأذاب فؤادها؛ بعد أن تغلغل إلى سويدائه؛ فأفرغه من كل شيء سوى: محمد بن القاسم!
يمرُ الحنون الكريم "أبو بكر الصديق" بدار في المدينة؛ فيسمع من داخله هذا الصوت الناري وهو يحترقُ من أعذَبِ العذاب: كأنّما أَطبقت على حروفه جمرتان لا شفتان، وكأنّه (الصوت) للتو قد خرج من تنورٍ ساخن:
وهويته من قبل قطع تمائمي = متمايساً مثل القضيب الناعم
وكأن نور البدر سُنَّة وجهه = ينمي ويصعد في ذؤابة هاشم
يُطرق إلى الصوت، ثم يَرِقُ –وهو الرقيق أصلاً– للهفة هذه المبتلاة المسكينة؛ فيسألها بعد أن دقّ الباب عليها: ويلك؛ أحرة أنتِ أم مملوكة ؟!
فتقول : مملوكة يا خليفة المسلمين .
ليسألها – وكأنّما حسّته نار قلبها - : فمن هويتِ؟!
لتجهش الصغيرة أمامه بالبكاء؛ وتقول:
وأنا التي لعب الغرام بقلبها = فبكت لحب محمد بن القاسم
عادةُ سيدي إيتاء المال يتزكى؛ لذا اشتراها ثم بعث لمحمد بن القاسم؛ فأهداها إياه؛ ثم قال -كأنما يوصيه- : هؤلاء فِتَنُ الرجال، وكم مات بهن من كريم، وعطب عليهن من سليم!
فرحمة الله عليك يا سيدي؛ تشتري رِقّ السماء (بلال) وتشتري رِقّة الأرض (عاشقة محمد بن القاسم)!
فأيّ رجل أنت يا أبا بكر؛ وكم هي حسناتك؟!
*تنويه: أعتقد أن هذه القصة عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- ضعيفة لأسباب كثيرة، بل هي بزعمي مختلقة لا أصل لها وإن وردت في كتب الأدب.
- 3 -
الأمير العاشق !
مقرن ابن الملك سعود بن عبدالعزيز – رحمه الله تعالى -!
شابٌ وقّاد الذهن .. برّاق العين .. أنيقُ العبارة .. وأمينُ سر!
اتخذه أبوه -دون مجايله- ليكون حِفظًا لحرز، وساعيَ بريدٍ لدولة؛ إذ كانت يمينه تذهب برسائل مفصلية؛ كانت غايةً في الأهمية: بين والده الملك سعود وبين عمه الملك فيصل – إبّان أزمة التنحي الشهيرة -.
وفجأة دون مقدمات: غاب ذيّاك البريق من عينيه، وخمد ذاك النشاط، وترنحت تلكم الوثبات!
لقد عشق الأمير؛ فتسربت سموم العشق إلى جسده؛ فغدا ناحل العود .. يابس الوجه .. مشدوه البصر .. شارد الذهن!
وزاد اللوعة حسرة: أن تزوجت ابنةُ العم من آخرَ غيره؛ ليقضي عليه الأسى دون تأسي!
مات في غرفته وحيداً بغربته في أحد فنادق سويسرا؛ ملتويَ البطن على كبده المتفحمة، ويابسَ الريق عَطَشًا على تلكم الغادة، وكأنّ سويسرا لا تجري تحتها الأنهار!
إذا وجدتُ أوار الحب في كبدي = عمدت نحو سِقاء الماء أبتردُ
هبني بردتُ ببردِ الماءِ ظاهِرَه = فمن لنارٍ على الأحشاء تتقد
ولكنّ هذا التخفيف لم يحصل لمقرن؛ إذْ إنّ أحشاءه قد احترقت وانبعث دُخانها؛ فرحمه الله ورحمنا!
(المرجع: رواية شقيقه الأمير سيف الإسلام بن سعود بن عبدالعزيز).