أنا من جيل كان يستمتع بكل شيء: لعب الكرة في الحارة، مشاهدة القناة الحكومية الوحيدة، مجلة ملقاة على قارعة الطريق، جريدة صادرة قبل عامين، مباراة بائسة بين الوحدة والطائي!
ربما سبب هذا الاستمتاع هو أننا كنا دومًا في دور المستقبل؛ إذ إننا آنئذ بلا أجنحة تطير إلى حيثما أرادت، وإنما طيور يلقى إليها حب الترفيه البريء في أوقات محددة.
التلفاز السعودي كان محافظًا للغاية؛ لا يعرض صوت مطربة، ولا فلمًا سينمائيًا إلا ما ندر، وإذا ما عُرض يكون قد تمزّق من مقص الرقيب، فلا يبقى من حبكته الدرامية إلا ما نستطيع نحن استنتاجه وفهمه.
ذات مرة غفا الرقيب عن مشهد قبلة سريعة من فنان لفنانة، ولأن الملك فهد -رحمه الله تعالى- كان حازمًا جدًا في هذه الناحية، فإن وزير الإعلام ساعتئذ (علي الشاعر) قد تلقى اتصالًا مزمجرًا من الملك بعد منتصف الليل، استقبل فيه توبيخًا عنيفًا على هذه اللقطة المزعجة للملك.
كان الملك فهد -رحمه الله تعالى- مدركًا لمكانة البلاد الدينية، وعارفًا بسر قوتها وتميّزها في هذه الناحية، ومن يسمع كلماته المرتجلة يكاد يشك: هل هذا داعية إسلامي أم هو ملك وسياسي!
في كل خطاباته -التي حفظناها في طفولتنا- كان يؤكد بأن العقيدة الإسلامية والشريعة المحمدية هما سبيل النجاة، وكانت قراراته منسجمة مع قناعاته السياسية وخطاباته المتكررة؛ فأفسح المجال للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واهتم ببناء المراكز الإسلامية حول العالم، وتوسعة الحرمين ومطبعة المصحف الشريف، ومتابعة هموم وقضايا المسلمين في أصقاع الأرض، ومن نتائج ذلك فقد أينعت في عهده الجمعيات الخيرية والإغاثية وربت، واستحالت أنشطة الصيف كلها إلى مخيمات دعوية، وإلى ذلك فقد بزغ في عهده نجم العلماء والدعاة، وكادت أن تتآكل نجومية اللاعبين والفنانين، والذين بدورهم قد تسابق الكثير منهم إلى الاستقامة والتوبة، ولعل من يرجع إلى صور اللاعبين في تلكم الفترة سيجد أن الكثير منهم قد أعفى لحيته وستر ركبته.
الالتزام تلكم الفترة لم يكن محصورًا بطبقة دون أخرى، فقد عمّ جميع المستويات الاجتماعية، بما في ذلك كبار الأمراء والتجار والمرموقين.
كانت زفرةً إيمانية أشبه بسحابة ممطرة؛ ولذا تشبّع أبناء جيلي بالفكرة الإسلامية التي سادت في عصره، وتوسعت ثقافة الشباب الدينية والمعرفية، وكان للشاب الملتحي في عهده هيبة ومزايا، وسلطة اجتماعية غير مكتوبة، لكنها ملاحظة.
يروي الشيخ صالح آل الشيخ بأن أحد الوزراء قد تجرأ في مجلس الوزراء على انتقاد جمعيات تحفيظ القرآن، فنظر إليه الملك شزرًا، ثم قال له: خلك في شغلك!
بعد دخول الانترنت، وضربة سبتمبر، ظهر صراع الأجيال الذي كنا نسمع به، فهناك جيلي الذي تحدثت عنه، وهنا جيل آخر مختلف تمامًا، فلا مصادر التلقي هي نفسها، ولا الأجواء الاجتماعية هي ذاتها.
أتذكر في هذا المضمار جملة قرأتها في كتاب "واقعنا المعاصر" لمحمد قطب؛ إذ إنه قال بأنه لم يكن من المستغرب في مصر القديمة -بداية انفتاحها- أن ترى أمًا بكامل حجابها تسير مع ابنتها بكامل تبرجها.
لا أقول بأن الوصف مطابق لما حدث في مصر من انهيار سريع، فالأمور هنا ما زالت في ظاهرها على أسس البنيان الأول، ولكنما ملامح التغيّر في المجتمع السعودي آخذة بالتشكل على استحياء، أو لعلها تنتظر هلاك جيلي والجيل الذي سبقه.
من بابة أخرى؛ فلا ريب بأن السعودية هي آخر القلاع المتحفظة، وأنها كانت عصيةً على التغريب؛ ولهذا التعصي أسباب مختلفة، منها: الأسس الشرعية للدولة نفسها وأنظمتها، وتركيبة المجتمع القبلية، وكذلك ضمها للحرمين الشريفين في سيادتها.
أخيرًا، فلعل من التناقض أن بعض أهل البلاد العربية كانوا قديمًا يصفوننا بالرجعية والتخلف بسبب محافظتنا، ثم هم اليوم يصفوننا بالتحرر والخلاعة بسبب تقليدنا لهم!