كثيرٌ من البشر يذهب إلى جهنم بسببِ أفكارٍ سخيفة؛ كأنْ يعبد بقرة، أو يعتنق مذهباً تافهاً، أو أن يستمرئ نوعاً خسيساً من الكذب يُدعى بـ "الهياط "!
وأيضاً؛ فإنّ ثمة من يفقد روحه لأسباب براقشية كما عند "براقش" التي جنت على نفسها!
ثم إنّ لله الحكمة البالغة قبل كل شيء؛ غير أنّ ما يستدعي الفِكْرَ مُستصحبًا معه الأمل بأنّ ما كانَ ليتَه لم يكُن؛ إنّما هو يجيء ويتحصلُ عند خسارة موهوبٍ ثمناً لتافه!
وإلاّ؛ فمن يُصدق بأنّ شاعراً كبيراً مثل "المتنبي" في عظمته وموهبته ورحلته - يذهب مقتولاً على مثل ما قد ذكرناه من بساطة الأسباب وعِظَمِ النتائج!
يموت صاحبُ اللسان القوّال، والفكر الجوّال، والقريحة الفائرة: وهو في الخمسينيات من عمره: ثمناً وفداءً لامرأةٍ (طُّرْطُبّة) [ 1 ] !
زهقت روحه لأجل هذا: وهو الشاعر الفرد الذي وصفه الإمام الذهبي قائلاً عنه: "شاعر الزمان".
ذابت قريحته؛ وهو الصانع المُتقن الذي قال عنه الحافظ ابن حجر: "نظم الشعر حتى بلغ الغاية".
هو الحكيم الذي قد ملأ الدنيا، وأشغل الناس، وبات الزمان لقوله مرددا.
وهو الفحل الذي أنجب خمسمائة بيت جارٍ على ألسنة الملوك –فضلاً عن العامّة من غيرهم!
وكذلك فإنه الشاعر الجريء الذي هجا الملوك والولاة ثم لا يُقتلُ منهم بعدئذ؛ وإنّما تجيء منيتهُ على يدِ نكرةٍ جاهلٍ لا يُذكرُ إلا بالمتنبي نفسه!
قتله من قد اجتمعت فيه الشراسة والغباوة اسماً وفعلاً (فاتك بن أبي الجهل بن فراس بن بداد) بدّدَ الله شمله!
فيا أسفاه على ذاك الجوف (جوف المتنبي) كم دُسّ في بطانته من شوارد الأبيات وأوابد الحِكم!
ويا حزناه على ذاك الصدر .. ذاك الصدر المليء بجواهر الشعر: كيف أُطبقت عليهِ مَعَه!
ويا ألماه على الشهرة الطائرة: كيف كُسر جناحها من أجل عابرِ اللمم!
قصيدة هزيلة قد قالها المتنبي مُتلهياً بها عن الولاة والأُمنيات –وكأني به يشرب الغليون حينها- عن بليدٍ مغموم يُدعى "ضبة بن يزيد"؛ فتصير تلكم الأُلهُوَّةُ سيفاً في لهاته بعدئذ!!
أنشدَ المتنبي –ومن استخفافه يؤتى الذكي– قصيدةً في "ضبّة" كان مطلعها:
ما أنصف القوم ضبة=وأمه الطُرطبة!
في أبيات هزلية تلتها؛ قد وصَفَها الجُبَّلي بقوله: "وما للمتنبي شعرٌ أسخفَ من هذا الشعر ولا أوهى كلاماً، فكان على سخافته وركاكته سببَ قتله وقتل ابنه وذهاب ماله"!
قصيدةٌ مؤسفة؛ ذكرَ الإمامُ الواحدي بأنّ المتنبي نفسه كان إذا قرئت عنده يتكرّه إنشادها ( ! ) ثم أردف الواحدي قائلاً: "وأنا أيضاً والله أكره كتابتها وتفسيرها، ولستُ أرويها وإنما أحكيها على ما هي عليه، وأستغفر الله تعالى من خطٍ لا يُزلف إليه" ا.هـ
الخلاصة: رمى المتنبي هذه القصيدة الواهية من فمه؛ فسحبت روحه معها؛ إذْ إنّ خال ضبّة المُشار إليه سابقاً ( فاتك بن أبي الجهل ) قد غضب لأجل أخته " الطُّرْطُبّة " فرصدَ للمتنبي وهو عائد من بلاد فارس ثم قتله!
وهكذا .. هكذا بكل بساطةٍ يذهب فحل العربية الكبير من أجل امرأةٍ "طُّرْطُبّة"!
سامحك الله يا أم ضبّة "الطُّرْطُبّة" فقد سقت أثداؤك السمّ لأشعر العرب!
وتعساً لأخيك: ما ضرّهُ لو متّعَنا بالمتنبي؛ ثم عن نفسه دفَعَ بقول الشاعر: وما زالت الأشراف تُهجى وتُمدح!
آيدن.
ــــــــــــــــــ
[ 1 ] الطرطبة: هي المرأة المرتخية الأثداء.
* قصيدة المتنبي كانت بذيئة ولكن عقوبتها بلا شك أقل من قتله.