الاستثمار ليس لعبة أرقام يفوز بها الأكثر دراية بعلم الرياضيات، بل هي عملية تعتمد بشكل كبير على اللياقة الذهنية للشخص وقدرته على السيطرة على مشاعره والتخلص من انحيازاته. ولذلك ينبغي أن يدرك المستثمر أن الأفكار التي تدور في رأسه لها بالغ التأثير على عملية اتخاذه للقرار الاستثماري.
وتعتمد عملية اتخاذ القرار الاستثماري في الأسواق المالية على قدرة المستثمر على التعلم ومعالجة المعلومات المتاحة. وتتطلب عملية التعلم الفعالة مقارنة المعلومات الجديدة بالتوقعات السابقة. فعلى سبيل المثال بعد كشف الشركة عن أرباحها، يجب على المستثمر مقارنة البيانات الجديدة بتوقعاته السابقة.
وفي الحقيقة، إن فهمك للتحيزات السلوكية وتأثيراتها المحتملة من شأنه أن يجعلك مستثمراً أفضل، لأن هذا سيساهم في رفع درجة وعيك بالقوى غير العقلانية التي تؤثر على قراراتك الاستثمارية. حيث يمكن للأحكام المشوهة وغير المنطقية أن تقودك إلى قرارات خاطئة ومنحازة، وبالتالي إلى خسائر فادحة.
يحدث "تحيز الإدراك المتأخر" بأكثر من طريقة في سوق الأسهم. فعلى سبيل المثال، قام مستثمر بشراء سهم الشركة "س"، ولكن عندما هبط سعر السهم، مال هذا المستثمر إلى الاعتقاد بأنه كان يعلم أن السعر سينخفض، وذلك على الرغم من أن كل المعلومات التي كانت متاحة في الماضي لم تكن كافية للتنبؤ بتلك النتيجة، ولكن عندما انخفض السعر وتوافرت معلومات أكثر بدت مسألة انخفاض السعر وكأنها حتمية وواضحة وقابلة للتنبؤ.
هذا السلوك يجعل المستثمرين يبالغون في تقديرهم لدقة توقعاتهم. هل المستثمر السابق كان يتوقع فعلاً انخفاض سعر السهم؟ قطعاً لا، وإلا ما كان اشتراه في المقام الأول. إذن لماذا يعتقد أنه كان يتوقع ذلك منذ البداية؟ ببساطة لأنه واقع تحت تأثير أوهام "تحيز الإدراك المتأخر" التي تجعله لا يرى سوى النتيجة الحاصلة فعلاً ويتجاهل كل الاحتمالات التي كان من الممكن أن تقع.
بعضنا بالتأكيد صادف هؤلاء الأشخاص الذين يدعون الحكمة بأثر رجعي، حيث تجدهم يحدثونك قائلين مثلاً "كيف تورطت في شراء السهم ص؟ أين كان عقلك؟" ويبدؤون في سرد الأسباب المنطقية التي تدعم حقيقة أن هذا السهم سهم سيئ. والسهم "ص" هو بالفعل سهم سيئ جداً، ولكن من كان بإمكانه أن يؤكد ذلك من البداية؟ بعد أن بدا واضحاً للجميع أنه سهم سيئ بدأ الكثيرون ينظرون ويبحثون عن دلائل تبرر الواقع، متجاهلين ربما عدم قدرتهم على الجزم بذلك من البداية.
أيضاً من التأثيرات السلبية لـ"تحيز الإدراك المتأخر" على المستثمرين هو أنه يعطيهم شعوراً زائفاً بالأمان والسيطرة أثناء عملية اتخاذ القرارات الاستثمارية، وهو ما قد يدفعهم إلى التعرض لمستويات غير مناسبة من المخاطرة، والاستهانة بحاجتهم إلى التحوط، حيث إن المستثمرين الواقعين تحت تأثير ذلك التحيز يعتقدون أن لديهم قدرة عالية على التنبؤ، غير أنهم في الواقع أبعد ما يكونون عن ذلك.
هذا التحيز يمكنه أيضاً أن يدفع المستثمر إلى ظلم الشخص القائم على إدارة محفظته الاستثمارية. فعلى سبيل المثال، إذا تراجع أداء المحفظة أو حققت عوائد ضعيفة في نهاية العام بسبب عدد من التطورات المفاجئة، يميل المستثمر إلى الاعتقاد بأن هذه التطورات كانت حتمية وكان ينبغي على مدير المحفظة توقعها، متناسياً أنه شخصياً لم يكن باستطاعته الجزم بذلك في بداية العام. ولكن بعد أن وقعت هذه التطورات أصبح التنظير لها سهلا جداً.