من منطقة برية شمال شرق الرياض تستضيف سباقا سنويا للهجن إلى قرية متكاملة تختصر تراث وثقافة وطن غني ومتنوع جغرافيا وتاريخيا. هذا ما يمكن أن توصف به الجنادرية. موقع متميز اختير بعناية ليكون مقرا لقرية جامعة لفسيفساء الوطن وخيراته التراثية والثقافية، وأنموذجا دائما لوحدة وطنية قدر لها أن تكون مثالا مأمولا لوحدة ثقافية عربية وعالمية تحتفي بالتنوع والتعدد سلما وسلاما.
تاريخيا، الجنادرية اسم لروضة من رياض الجزيرة العربية مشهورة بمياهها ونباتاتها الموسمية. أما لغويا فجندرة المكتوب تعني إبرازه وإظهاره بوضع خط تحت المميز والمهم منه، أما جندرة الملبس فتعود لآلة معروفة قديما تعنى بصقل الثياب القديمة وإعادتها كالجديدة.
وفي كلا المعنيين تماس وثيق مع ما قامت وتقوم به "الجنادرية" على أرض الواقع. من إبراز وإحياء للموروث الوطني الغني، واحتفاء بالهويات الفرعية التي تشكل من وحدتها الوطن، في رسالة ثقافية تؤكد أن وحدة الوطن لا تعني ذوبان مكوناته الهوياتية لمصلحة هوية واحدة بعينها، وأن تكامل الجميع لا يكون إلا خدمة لوطن واحد وهوية واحدة تشكلت وتأصلت من مجموع هذه الهويات الفرعية.
فالعرضة النجدية والخطوة الجنوبية كما الدحة الشمالية والرقصات الساحلية. كلها وإن تنوعت أنغامها وألحانها تنطلق من صوت واحد وتصب في مسمع واحد، غايته حفظ الوطن والاحتفاء بماضيه وحاضره.
ثلاثة وثلاثون عاما من الاحتفاء بالكلمة واللحن والفنون بجميع ألوانها. إذ لا تزال الذاكرة تحفظ للجنادرية قصائد وأوبريتات غنائية خالدة. اشترك في الإعداد لها وتقديمها كثير من المبدعين السعوديين والعرب، فضلا عن أمسيات وندوات معرفية شارك في إحيائها وإثرائها نخبة من خيرة المثقفين.
الفلكلور بتباين أعماره وأنواعه وبكامل تفاصيله لم يكن إلا إبداعا يسجل للزمن الذي ظهر فيه. لذلك لم تكتف الجنادرية بأعمال الأزمان السابقة فسجلت بكثير من الجهد لزمننا وللأزمان المقبلة أعمالا خالدة سيذكرها الوطن والتاريخ بكثير من الإعجاب والتقدير.
التفاتة بسيطة لعشرات من أعوام خلت. ستجعلنا نتمعن بوضوح ابتسامة غازي القصيبي وهو يلقي روائعه، وصرامة خلف بن هذال وهو يرتجل قصائده. وصوتا طلال مداح ومحمد عبده ينشدان لبدر بن عبدالمحسن: "الله البادي ثم مجد بلادي .. ديرتي غيرتي .. حبي اللي في العروق"، أو خالدة سعود بن عبدالله وألحان محمد شفيق "مولد أمة" وفيها يتغنى الشاعر بكل منطقة من مناطق الوطن على حدة. "قلبي تولع بالرياض.. أبها عروس في الجنوب.. وصبيا تداعبها طروب". بينما تردد المجاميع الغنائية بصوت واحد بين مقطع وآخر، "برد وسموم نحبها.. في سلمها وفي حربها .. نحبها نحبها".
الجنادرية تشهد أيضا إضافات معمارية متلاحقة لكي تعبر عن كل منطقة من مناطق الوطن بأفضل طريقة ممكنة. فبينما يمكن لكثير من الدول أن تعبر عن تنوعها بقليل من التعريف والجهد. يصعب على دولة كالمملكة بحجم قارة، جغرافيا وثقافيا، أن تختزل كل هذا التنوع في عروض مبسطة ومختصرة، ولكن هذا ما تصدت له الجنادرية بإصرار وثبات يحسب لها وللقائمين عليها منذ انطلاقها على أرض تم تخطيطها نموذجيا لتتطابق في توزيعها وخريطة المملكة الحقيقية.
مشروع وطني طموح و"مفتوح المصادر" بحسب التعبير الحديث لكثير من المشاريع العالمية التي تعتمد على الآخرين المستفيدين في إثرائها، تماما كما تعتمد على مصادرها الداخلية، وهو ما بدا واضحا من خلال إثراء إمارة وأفراد كل منطقة لتراث منطقتهم المادي والمعنوي عاما بعد عام، ما أوجد بدوره تنافسا محمودا بين المناطق لاستقطاب أكبر عدد من الزوار والمهتمين من داخل المنطقة وخارجها، بل من خارج الدولة نفسها، إذ شهدت الجنادرية زيارات لمجاميع سياحية، عربية وغربية، حصدت في إثرها كثيرا من التوثيق والتدوين.
امتداد الجنادرية من رمز للوحدة الوطنية محليا إلى أيقونة ثقافية عالمية يستدل بها الآخر، العربي والغربي، على مدى التنوع والتعدد الذي عاشته وتعيشه المملكة مطلب ملح في زمن العصبيات المذهبية والهويات المنغلقة على ذاتها. وباستطاعة هذا التراكم المادي والمعرفي الذي حققته الجنادرية على مدى ثلاثة عقود أن يكون المنصة الجاهزة والأنسب لهكذا عمل من خلال ما يقوم به المهرجان من تفعيل للبرامج الثقافية الرائدة عربيا، ومن خلال استقطاب أسماء لها ثقلها على الصعيدين الثقافي والعلمي. وعن طريق تفعيل مبادرات ثقافية تنويرية منبعها الجنادرية، تعنى بالمبدعين في جميع العلوم والفنون الإبداعية.
ما تقدمه الجنادرية عبارة عن "متحف مفتوح". بكل ما تحمله الكلمة من معنى انطلاقا من فكرتها الجامعة مكانا ملائما لالتئام الجهود الوطنية والعربية. ولتحقيق كثير من الغايات التراثية والثقافية الدولية. في وقت أشد ما يكون فيه العرب والعالم لمبادرات رائدة تميزت بها المملكة بقيادة خادم الحرمين الملك سلمان بن عبدالعزيز.