الملحد يقول: إنه يقدس العقل
والعقل يقول: إن الإنسان ضعيف إلى الغاية في هذا الكون العظيم، لا سيما في بعض مراحل حياته كالطفولة والشيخوخة
والضعيف لا يمكن أن يقدس قدراته العقلية والجسمية وهو عرضة للسفه والطيش والخرف والجنون، وجسمه عرضه للأمراض بكافة أنواعها؛ لدرجة أنه قد يصل إلى مرحلة لا يستطيع فيها أن يبتلع ريقه ولا يغلق فمه، ولا حتى ينظف نفسه من البول والغائط.
وإذا رجع إلى الوراء وشاهد صورته أول ما خلق في بطن أمه من علقة، لم يصدق وهو الآن يبطش ويتجبر ويتفلسف وينكر ما عجز عقله عن إدراكه أنه كان تلك القطعة من الدم في يوم من الأيام، بل لو رجع أكثر لأجاب باندهاش عن هذه الآية:
"هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا"
ثم يصير بعد موته إلى جيفة منتنة لا يستطيع أعز أحبابه أن يجلس إلى جواره.
إذا كان الإنسان بهذه الصورة من الضعف فهو محتاج إلى سند يلجأ إليه في حال الضعف، وقد أدرك ذلك غالب الناس في كافة العصور، لكن معظمهم اتخذ سندًا من وحي خياله، فألغى عقله وأشرك مع الله مخلوقًا ضعيفًا مثله أو أقل منه، يلجأ إليه عند الضعف والشدائد.
وإذا قارنا المشرك بالملحد في الجانب القلبي وجدنا المشرك أكثر طمأنينة من الملحد، غير أنه أمحق عقلاً.
فالملحد يعيش بنصف عقل، لكن بلا قلب، والمشرك يعيش بنصف قلب، لكن بلا عقل، والمؤمن يعيش بعقل وقلب كاملين؛ لأنه استعمل عقله فاستدل به على وجود إله، ثم نظر فرأى أن هذا الإله لكي يستحق العبادة لابد أن يكون كاملاً في جميع صفاته، ومن صفاته الكاملة: القوة والحكمة
فقوة الإله تطمئن قلب العابد، وحكمته تثري عقل العالم، ولذا جمع الله سبحانه بين هاتين الصفتين كثيرًا في مثل قوله تعالى: "وهو العزيز الحكيم" "إنه كان عليمًا قديرًا"
ولما آمن الإنسان بهذا الإله ، وورده من هذه الإله القوي الحكيم الكامل في كل صفاته بعض الأمور التي حار فيها عقله سلّم بذلك لأمرين:
الأول: أن كل الناس يقرّون بأن الأشياء والحكم والأسرار في هذا العالم قسمان:
قسم أدركوه بعقولهم
قسم عجزوا عن إدراكه.
فالأمر سهل عندهم .. جعلوا ما عجزوا عن إدراكه من هذا القسم.
الثاني: أن الإله لابد أن يختبر عباده أحيانًا بما لا تدركه عقولهم؛ ليختبر منهم الصادق في إيمانه من الكاذب، كما اختبر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، مع أنه لا يظهر في هذا الأمر مصلحة إلا اختبار الانقياد والتسليم من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
وهذا الأمر يفعله الرئيس مع المرؤوس والقائد مع الجندي والسيد مع العبد أحيانًا لا لشيء إلا ليختبر طاعته، ثم تكون مكافأة الطائع بلا تلكؤ ولا نقاش كبيرة عظيمة، فليس غريبًا أن يفعل ذلك الخالق مع المخلوق، وبينهما من الفرق أعظم مما بين الملك ورعيته والسد وعبده.