قال أبو القاسم حسين بن محمد الراغب الأصفهاني في كتابه الجامع «محاضرات الأدباء ومحاورات البلغاء والشعراء» الجزء الثاني ص499 تحت عنوان «تشاحح الناس بالمال»:
لما ضُربت الدراهم والدنانير صرخ إبليس صرخة.. وجمع أصحابه فقال:
قد وجدتُ ما استغنيتُ به عنكم في تضليل الناس، فالأب يقتل ابنه، والابن يقتل أباه بسببه»!!
قلت:
وأظن أن إبليس - لعنه الله ولعن كل شيطان، حين اختُرعت الفلوس قد فَصَلَ مليون شيطان على الأقل، وبَصَقَ في وجوههم مكافأة نهاية خدمة..!
خاتمة شيطان!!
٭٭٭
والواقع المُشاهد في هذه الحياة، والمقروء في أسفار التاريخ، أنَّ الفلوس كانت من أكبر أسباب الفساد في هذه الأرض، ومن أكبر مسببات سفك الدماء، وقطع الصلات بين الأقارب، وتغيُّر الأصدقاء على الأصدقاء، بل هي من أكبر أسباب قيام الحروب، وخراب البلدان، واستعمار الضعفاء، واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، ومن أعظم الدوافع للخراب والدمار، والفتن ما ظهر منها وما بطن، وهي السبب الرئيسي في فساد الذمم والأخلاق، وانتشار الرياء والنفاق، وانحراف الموازين الاجتماعية، وانتشار الظلم والاضطهاد، وانهيار القيم والمبادئ، وانهزام الضمائر، وظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس..
وليس للمال من حد يحده في الفساد والإفساد إلا الدين الصحيح المستقر في الأعماق، والتربية القويمة بالقدوة الصالحة منذ الصغر، وبدون هذا فإن التكالب على المال يعمي البصائر والأبصار، ويكاد يطمس معالم الأخلاق، ويريح إبليس اللعين من جيش من الشياطين، فالتهالك على المال بالحلال والحرام، وابتكار أغرب السُبل لنهب المال ونشر شبكة الفساد، يطغى على أكثر البشر في هذه الأرض، فيتعاونون على الإثم والعدوان، ويبدعون في اختراع الوسائل لأكل أموال الناس بالباطل، وبعضهم ينافق ويرائي لأجل عيون المال فقط:
صلى وصام لأمر كان يطلبه
فلما انقضى لا صلى ولا صاما
وهذا من عبيد المال وما أكثرهم قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار» وقال ما معناه: «إني لا أخشى عليكم من الفقر ولكن من أن تفتح لكم الدنيا كنوزها فتنافسوها فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم».
والمثل العالمي يقول: «الأرض الخصبة موحلة» فكلما كثر المال وكثرت الفرص خفت صوت الضمير والأخلاق وانتشر التحايل والغش والفساد وانتصر إبليس مع استغنائه عن الأعوان..
التكالب
وعبارة (التكالب على المال أو التكالب على الدنيا) وهي ترد كثيراً في تراثنا الأدبي وأشعارنا.. ليست تقبيحاً لحيازة المال بالحلال.. فهذا أمر مشروع وجميل ويدفع للعمل والإنتاج، ولكنها تصوير لقبح الفساد المالي حين يتسابق الكثيرون على الاحتيال والتدليس والغش وطرق الفساد، فقد (تكالبوا) مشتقة من (الكلاب) حين تتضارب على عظم ويعوي بعضها على بعض وتخرج أنيابها، وهذا معنى قول الإمام الشافعي:
ومن يذُق الدنيا فإني طعمتها
وسيق الينا عذبها وعذابها
فلم أرها إلا غروراً وباطلاً
كما لاح في ظهر الفلاة سرابها
وما هي إلا جيفة مستحيلة
عليها كلاب همهنَّ اجتذابها
فإن تجنبتها كنت سلماً لأهلها
وإن تجتذبها نازعتك كلابها!
والغريب أن أشد الناس حرصاً على المال وظمأً له لا يرتوي أبداً هم من اعتادوا الفساد وباعوا في سبيل المال الضمائر والأخلاق وشخصت أعينهم إلى عبادة المال وكنزه بالحلال والحرام والإسراع إليه زرافات ووحدانا يركض الواحد منهم «ينبط الحصا» من تحته ويضرب كل من وقف في طريقه ممن يقدر عليه ويذل لكل من لا يقدر عليه أو من يستفيد منه، والذي ليس غريباً أن مثل هذا لا يهنأ بماله ولا بوقته ولا يحتفظ بأخلاقه وسلامة ضمائره وراحة باله وإنما هو مسرع إلى المال مندفع قد نصب المال غاية أو ربَّا والعياذ بالله حتى يسقط بالسكتة القبلية تاركاً أمواله الهائلة لوراثه وعليه حسابها..
٭٭٭
إن السعي الشريف لجمع المال بهدف تحسين الحال وتحقيق المكارم وأداء الحقوق أمر مطلوب وجميل ومندوب ونافع للفرد والمجتمع فهو يحض على العمل والإنتاج فينفع صاحبه وينفع الاقتصاد، وصاحبه يكون في العادة ذا نفس طيبة أما الآخر الذي يعبد المال ويعده غاية لا وسيلة، فهو فقير نفس فقير أخلاق يخوض إلى المال أوحال الغش والاحتيال والفساد، وهذا ما نلاحظه مع الأسف لدى بعض المضاربين في سوق الأسهم يغررون بصغار المتداولين بشتى الطرق ولا مانع لديهم من التدوير وإعطاء الانطباع بارتفاع سهم لا يستحق الارتفاع حتى يغروا الأجاويد بالشراء ثم يعلقونهم في الفضاء ويخسرونهم أمرَّ الخسائر، مع أن هؤلاء المضاربين أغنياء بالمال ولكنه الطمع وعدم الرضا وعدم الإحساس بالفرق بين الجميل والقبيح، فبريق المال كثيراً ما يطمس البصائر ويعمي الأبصار.
٭٭٭
إنَّ الإضرار بالناس من أقبح الذنوب والجرائم، وَمَنْ يغرر بصغار المساهمين ويعطي انطباعاً غير حقيقي بارتفاع سهم لا يستحق بهدف الإيقاع بالناس وأخذ أموالهم قد أضرَّ بهم إلى أبعد حد، وفيهم من اقترض وفيهم من حاله حال، والتغرير لا يصح ولا يجوز في كل الملل والأخلاق حتى بالأثرياء فما بالك بمحدودي الدخل والمقترضين على الرواتب حين يخدعهم بعض المضاربين ويسلبون أموالهم؟ ومن يفعلها ليس في عيشة راضية. عبدالله الجعيثن جريدة الرياض