غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شاد
وشبيه صوت النعي اذا قيس بصوت البشير في كل ناد
ابكت تلكم الحمامة أم غنت على فرع غصنها المياد
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد؟
خفف الوطء ما اظن اديم الارض الا من هذه الاجساد
وقبيح بنا، وإن قدم العهد هوان الآباء والأجداد
سر ان اسطعت في الهواء رويدا لا اختيالا على رفات العباد
رب لحد قد صار لحدا مرارا ضاحك من تزاحم الاضداد
ودفين على بقايا دفين في طويل الأزمان والآباد
فأسال الفرقدين عمن احسا من قبيل وآنسا من بلاد
كم اقاما على زوال نهار وانارا المدلج في سواد
تعب كلها الحياة فما اعجب الا من راغب في ازدياد
ان حزنا في ساعة الموت اضعاف سرور في ساعة الميلاد
خلق الناس للبقاء فضلت امة يحسبونهم للنفاد
انما ينقلون من دار اعمال الى دار شقوة او رشاد
ضجعة الموت، رقدة يستريح الجسم فيها والعيش مثل السهاد
أبنات الهديل اسعدن اوعد ن قليل العزاء بالاسعاد
ايه لله دركن، فانتن اللواتي تحسن حفظ الوداد
ما نسيتن هالكا في الأوان الخال أودى من قبل هلك إياد
بيد أني لا ارتضي ما فعلتن واطواقكن في الاجياد
فتسلبن واستعرن جميعا من قميص الدجى ثياب حداد
ثم غردن في المآتم واندبن بشجو مع الغواني الخراد
شرح القصيدة
.... هذه القصيدة الرائعة لأبي علاء المعري
الذي عاش حياة قاسية جدا..إذ فقد بصره في صغره وفقد والده بعمر 14 وفقد والدته عندما كان عائد إليها من بغداد..
هو من الشعراء الذين بنوا لنا صروحا عالية من الأدب..
والقصيدة هذه سببها كان موت الفقيه أبي حمزة في عز شبابه وكان ابو علاء معجبا بأخلاقه فرثاه رثاء حافلا بالتأملات العامة... وباختصار فإن محتوى القصيدة هو:
إنه غير مفيد في مذهب الشاعر وعقيدته البكاء على الميت عند موته، ولا الغناء للمولود عند ولادته لأن الحياة -عند الشاعر- لا قيمة لها، فمصير المولود إلى الموت، والبشارة إلى نعي،فالصوتان عنده متشابهان.
ثم من ذا الذي يعلمه بحقيقة صداح الحمامة، هل هو غناء أم بكاء ولعل الذي نظنه منها غناء، ليس سوى بكاء على حالتها.
ويوجه كلامه في البيت الرابع إلى صاحبه المتخيل قائلا له بأن هذا الذي نراه اليوم من قبور هي لأناس ماتوا في عهدنا ولقد ملأت الأرض على سعتها، فأين قبور من مات في الأزمنة الغابرة.
ثم يحث بعد ذلك على ضرورة تخفيف الوطئ على الأرض لأن ترابها مكون من أجساد أخواننا البشر، فمن القبح مهما قدم العهد أن ندوس الأرض بأقدامنا لأن ذرات التراب فيها من بقايا الآباء والأجداد، ولذلك علينا إن استطعنا أن نسير في الهواء لا أن نمشي بتبختر على الأرض لأنها من رفات من ماتوا قبلنا.
وكم من قبر نشاهد اليوم قد صار قبرا مرارا حتى أنه ليضحك من تزاحم الجثث، الأموات فيه، بعد أن كانوا في الحياة مختلفي المبادئ، وهم اليوم فيه متساوون، وهكذا يدفن الميت الجديد على بقايا الميت القديم منذ سالف الأزمان والأوطان والعهود.
ما أعظم الحزن على الإنسان عند موته بالنسبة إلى الفرح به عند ولادته، فلو عقل الناس لقلبوا الآية، وحزنوا لولادة المولود لأنه جاء دار الشقاء والفناء وفرحوا لموت الحي لخلاصه من واقعه المرير.
الحياة عند الشاعر مثل السهاد لما فيه من تعب وعناء، والموت مثل النوم لما فيه من راحة وسكينة.
ولا غرابة في ذلك بالنسبة لأبي علاء المعري فالألآم التي عاناها في زمنه جرته إلى هذا النوع من التشاؤم..