فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد غلظ الله سبحانه وتعالى هذه الجريمة الشنعاء، فقال سبحانه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93].
إن دم المسلم ليس كأي دم على وجه الأرض، ولذلك فإن الله تعالى غلظ هذا الجرم وعظم هذا الإثم، فحرمه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في أشرف البقاع على وجه هذه الأرض وفي أعظم يوم من أيام الله تعالى؛ فعن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره وأمسك إنسان بخطامه -أو بزمامه- قال: «أي يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: فأي شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس بذي الحجة؟ قلنا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه»(1).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم»(2) وحذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أن يرجع المسلمون كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض»(3).
وعن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»(4).
وما سوى ذلك فإن دم المسلم حرام، وماله حرام، وعرضه حرام، وإن أول من سن القتل هو ابن آدم الأول الذي تجرأ حين رأى أن الله تعالى تقبل من أخيه ولم يتقبل منه، فقال: {لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، فما ذنبي وما جرمي إن كان الله لم يتقبل منك بسوء أعمالك؟ فقتل أخاه ولم يعرف أن هذا الذنب سينجر عليه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فما من دم يراق على ظهر هذه الأرض إلا وكان على أبن آدم الأول حظه من ذلك الإثم، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»(5).
وقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لا تقتل نفس إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها»(6).
لأنه أول من سن القتل، فلما كان هو أول من سن القتل على وجه هذه الأرض كان عليه الإثم والجرم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، من أجل ذلك حرم الله تعالى الاعتداء على الأنفس إلا بحق هذه الأنفس مهما كانت، فإن الله تعالى لم يخلق الناس من أجل أن تراق دماؤهم بالباطل، وإنما رخص سبحانه وتعالى في إراقة الدماء في أحوال تكون فيها المصلحة راجحة إذا أريقت تلك الدماء، كقتال الكفار من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى من أجل استتباب الأمن والاستقرار، ولذلك فإن الله عز وجل حرم قتل المعاهد الذي يدخل بلاد المسلمين بعهد.. حرم إراقة دمه، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما»(7).
وهكذا أيضاً لا يجوز الاعتداء على الناس مهما كانت دياناتهم وأجناسهم إلا بحق يخوّلنا الله عز وجل به في كتابه أو سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل الشرع بين ذلك قواعد وأصول وضوابط لابد من اتباعها وسلوكها، لذلك فإن الله عز وجل أمر عباده المؤمنين أن يكونوا لحمة واحدة، وأن يكونوا جماعة واحدة، وأمرهم بالاعتصام، فقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، فنهاهم عن الاختلاف والتفرق، وأمرهم بأنه إذا حصل فيما بينهم نزاع أو قتال فلابد أن تكون إحدى هاتين الفئتين باغية، فأمر البقية أن يراجعوا تلك الباغية: فإن فاءت ورجعت وإلا فقد قال الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].
ولا شك أن هذه المقاتلة يحدث من جرائها إراقة الدماء وبتر الأعضاء، وإسالة للدماء الزكية وقطع للرقاب، كل هذا من أجل أن تعود الأمور إلى نصابها ومن أجل أن يستتب الأمن والاستقرار في أوساط المسلمين، لذلك فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قد حذر من تلك الطوائف والفرق التي ظهرت -وستظهر في الإسلام- من تلك الطوائف التي تحمل في مناهجها العنف والتكفير وإهدار الدماء وهتك الأعراض وسلب الأموال.. التي بنت مناهجها على قواعد فاسدة لا تتصل إلى الإسلام بصلة، لا من قريب ولا من بعيد، وقد حذر صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك كله فقال: «افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة»(8).
ظهر في الصدر الأول من الإسلام في حال وجوده صلى الله عليه وآله وسلم رجل يقال له: ذو الخويصرة، حيث قسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم غنائم غزوة حنين، فلما نظر إلى أنه صلى الله عليه وآله وسلم أعطى الحظ الأوفر للمؤلفة قلوبهم من مسلمة الفتح؛ قال هذا الرجل: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله!! يعني: إنما أراد بها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قرابته وقبيلته ولم يعطها أولئك الذين نصروه وآووه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا تأتمنوني وأنا أمين في السماء؟!» بمعنى: كيف تأتمنوني على دينكم ولا تأتمنوني على دنياكم؟ فقام عمر رضي الله عنه فقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال له: «لا تقتله، أتحب أن يتكلم الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟» فنظر صلى الله عليه وآله وسلم إلى المصلحة العليا ولم يأمره بإراقة دم هذا الإنسان وإن كان هذا الرجل حكمه في الإسلام أنه يقتل؛ لأنه لم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يقتل من قال مثل هذا الكلام، وإنما راعى المصلحة والمفسدة، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنه يخرج من ضئضئ هذا -أي: من ذريته- قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية».
ظهر هذا الرجل بعد ذلك هو وأنصاره في زمن علي رضي الله عنه، وخرجوا عليه وكفّروا الصحابة رضي الله عنهم، وسفكوا الدماء، وبقروا بطون النساء الحوامل، وارتكبوا الجرائم، كل ذلك لأنهم قعّدوا لأنفسهم قواعد منحرفة، وهذه الفئة الضالة لا تزال موجودة إلى يومنا هذا، لقد كان علماؤنا يحذرون من مثل هذه الفرق، فإذا أناس يقولون: أنتم تتكلمون على فرق قد اندثرت وولت الأدبار ولا يمكن أن تقوم لها قائمة!
إن تلك الفرق والطوائف التي تكلم عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم -هذه الطوائف- وإن ضعفت توشك أن تنتفض من جديد بطريقة أو بأخرى ثم نعود لما عاد إليه سلفها الأول، تلك الفئة أعني الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه -في وقت الصحابة رضي الله عنهم- متوافرون، كفروهم ولم يلتفتوا إليهم لا من قريب ولا من بعيد، أقاموا مذهبهم على تكفير المسلم الذي يرتكب ذنباً، ومن هذا الذي لا يرتكب ذنباً الصحابة فما دونهم يرتكبون الآثام ويرتكبون الكبائر، فوجد من الصحابة من ارتكب الحرام، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكفر أحد منهم، فيهم من شرب الخمر مع بقائه على الإسلام والاستقامة والتوحيد وإقامة الصلاة، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا تعينوا الشيطان على أخيكم، فقال: أخيكم إنه يحب الله ورسوله»، ولما زنت المرأة وأقيم عليها الحد قال: «لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لو سعتهم» والله تعالى قال في الفئتين المتقاتلتين: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].
فسماهم مؤمنين ولم يقل: إحداهما كافرة والأخرى مؤمنة، مع أنهم قاتلوا وأراقوا الدماء، وفي الصحابة أيضاً من سرق، وفيهم من فعل، ومع هذا لم يكفرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد بوّب الإمام البخاري وغيره أبواباً كثيرة في كتب الإيمان والاعتصام بالكتاب والسنة؛ بوبوا أن مرتكب الذنب لا يكفر إلا إذا استحل ذلك الذنب، فهؤلاء القوم كفّروا الصحابة جميعاً ومن وقف بجوار علي رضي الله عنه وفعلوا الأفاعيل، ولكن كان علي رضي الله عنه لهم بالمرصاد، فأرسل إليهم أولاً ابن عباس فناظرهم، فتبين لبعضهم الحق ورجعوا إلى جانب علي رضي الله عنه، وبقي من بقي منهم على غيه وضلاله، فقالوا لعلي رضي الله عنه: ماذا تقول فيهم؟ أكفارٌ هم؟ قال: من الكفر فروا؛ إخواننا بغوا علينا. هذه هي الوسطية التي تربى عليها أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ أنهم لا يردون الضلال بالضلال، ولا يردوا البدعة بالبدعة، وكانوا منصفين من أنفسهم ومن مخالفيهم وأعدائهم، لم يكونوا ليتجرءوا على حكم الله ولا على حكم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أسأل الله عز وجل بقدرته وعزته أن يهلك الظالمين، كما أسأله تعالى أن يحمي بلدنا وأن يعصم بلدنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يحفظ المسلمين من كل سوء ومكروه، والحمد لله رب العالمين.
_____________________
(1) البخاري 1/ 37.
(2) صحيح الترغيب والترهيب 2/ 315.
(3) البخاري 1/ 56.
(4) مسلم 3/ 1302.
(5) مسلم 2/ 704.
(6) البخاري 6/ 2518.
(7) البخاري 3/ 1155.
(8) سنن أبي داود 2/ 608.
(9) سنن أبي داود 2/ 61.
(10) سنن أبي داود 2/ 634.
__________________
قال صلى الله عليه وسلم : سيأتي على الناس سنوات خداعات ، يصدق فيها الكاذب ، و يكذب فيها الصادق ، و يؤتمن فيها الخائن ، و يخون الأمين ، و ينطق فيها الرويبضة . قيل : و ما الرويبضة ؟ قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة