الى ذلك البيت المتهالك الذي يقبع خلف الزمن وتلك البيوت الشعبية المتراصة وبابه الخشبي الازرق شد أبانا مرغما والألم يعتصره رحالنا أطفالاً لا نعي من أمور حياتنا شيء وعهد بنا الى قريب لنا. كان السفر من القرية الى المدينة ذلك الوقت يكتنفه بعض المصاعب خاصة وأنه بات من المحتم علينا أن ننتقل الى مدرستنا الجديدة في أحد أحياء المدينة التي انتقلنا اليها بعد تخرجنا من مدرسة القرية. لا أعلم حتى الآن ماذا كان يعتصر والدي من خوف علينا عندما قرر أن ننتقل الى ذلك المجهول صغارا لا حول لنا ولا قوة. حزمت والدتنا حقائبنا إن كان فعلا يوجد لدينا حقائب وإخوتي الآخرين ولم تنس أن تدس لها بعض الإحتياجات التي أكل عليها الدهر وأصبحت بالية في صرة من غترة خرجت عن الخدمة لإهترائها. وبعد إصرار منا وافق والدي على أن ترافقنا احدى قريباتنا في مسكننا الجديد. لم يكن للوالده أي خلفية او رغبة اطلاقا في عيش المدينة ومسايرة ساكنيها سيما أنها على الفطرة المحمدية وأن تترك مسقط راسها وبعض شياة ودجاج وكثير من حياة بائسة. لم يكن الحال يساعد على تأثيث بيتنا الجديد المكون من غرفتين خربه رائحة العفن تتصاعد من جدرانها وقد تساقط لونها وخارجه مكشوفه تشكل لنا هاجسا مرعبا كلما ارخى الليل سدوله ولف الظلام المكان حتى اصبحنا عندما نخلد الى النوم نعزل ذلك المكان عن غرف نومنا ولا يلوي احد منا او يتجرأ ان يذهب اليه.
لم تكن هذه الخطوة والحياة الجديدة سهلة بالنسبة لنا وحياتنا كلها في القرية ولا نزور المدينة الا لماما. لذلك فقدنا توازننا ان صح التعبير ولم نستطع الانصهار في هذا العالم الجديد الذي له سماته ونمط عيش مختلف تماما عن الذي كنا نعيشه في القرية. فقدنا هويتنا وكل شيء من هواء وسماء وتراب وأصبحنا بلا دليل. حاولنا أن نتأقلم مع واقعنا الجديد ونستعيد توازننا ونمارس حياتنا بكل اريحيه ونزيل عن من حولنا نظرة الدونية والشعور ونتعايش مع المجتمع، مع الشارع، مع الاقرباء في تلك الحارة، مع الجيران، مع زملاء المدرسة، مع هواء تلك الغرف الخربه، مع سويعات الأصيل ومع الليل إذا ما حط رحاله. ولكن هيهات. انا لنا ذلك ونحن نفتقر الى أبجديات الحياة وشضف العيش والاستقرار النفسي ولا يوجد من يقف الى جوارنا ويعلمنا كيف نعيش وكيف نتعامل مع هذا الكابوس المخيف. يا لها من تجربة مريرة. كان كل يوم يصحو أحدنا قبل أذان الفجر وعليه أن يسلك عدة أزقة الى ذلك التمساني الذي لم يوقد ناره بعد لإعداد التميز ونقف الى جوار دكانه في حالة أقل ما يقال عنها أنها رعب والشوارع خالية من المارة وأسنان تصك في بعضها من شدة البرد. حسبي الله على من لم يعلمنا أن تستغني عن ذلك التميز وهذا الخوف الذي يقض مضجع أطفال صغار فضلا عن قرويين ونقضي حوائجنا من الليل. لا ابالغ إن قلت كنا مثار سخرية وتندر في ذلك الحي لاسيما ونحن صغار لا يوجد من يدافع عنا والمجتمع وأهله لا يرحم ولا يصدق بهؤلاء القرويين لكي يفرغ شحنات الفكاهه وأقذع الصفات، ومن يوجه لنا كل جديد من الفكاهه ويضحك علينا، حشد من الصبية والمراهقين يكون سيد الشارع والحي. وكم حاولنا أن نبعد عنا العفوية والتلقائية التي جبلنا عليها ونصبح أندادا لهم ونقارع الحجة بالحجة نسقط ونفشل فشل ذريع وأصبحنا كمن يحاول التقليد فلا يجيد من يحاكيه ويفقد خاصيته. أمسى همنا ذلك المجتمع وكيف يتقبلنا وانعكس ذلك على مستوى تحصيلنا العلمي. أضعنا كل شيء. ولم يكن المصروف المخصص لنا في كل إسبوع يكفي الحياة الجديدة ويسد رمق ستة أفراد ويلبي متطلباتهم من مأكل ومشرب ومصروف للمدرسة وسيارة نقل فيما بعد. ولعلي أذكر أن أحد الاخوة كان يتولى ضبط الميزانية ويضع بضع الريالات في درج صندوق حديد صدأ ويحكم إغلاقه إن صح القول ولعل يدي إمتدت اليه عبثا ذات يوم. ومن هنا أطلب منكم أن تحللوني من تلك الريالات التي أخذتها دون علمكم.
كانت الدراسة آخر إهتماماتنا. نذهب قبل الجميع ونعود بعد الجميع نظرا لبعد المسافة الى المدرسة وكيف لأطفال أن يقطعوها ويحملون على ظهورهم الجبر والحساب والهندسة. لم نكن نملك من الملابس ما يدثرنا من البرد ويحمي أجسادنا في البيت الذي أكلت الرطوبة جدرانه وخزان مياه تحت غرفة نومنا إختلطت مياهه مع مياه الحي وفوهته الى ذلك السيب الضيق. أي حياة هذه! وأي تعاسة . لا زلت أتذكر تلك المناسبات وعقود الاضاءة التي كانت تزين شارعنا ونحن ننظر إليها من طرف خفي ونشم رائحة العشاء. في إحدى الليالي كان الدور علي أن أذهب لأشتري عشاء إن جاز لي التعبير. إتجهت الى البقالة وإشتريت علبة مربى وواصلت طريقي لأشتري تميز وكأن لا يوجد في ذلك الوقت سواه. وبينما أنا في إنتظار أن تجهز وعلبة او زجاجة المربى في يدي والمكان فيه بعض الصبية الاشقياء غافلني أحدهم وقذف بزجاجة المربى من يدي الى حيث أصبحت أثرا بعد عين. ذرفت الدمع على حالنا وعلى المربى المسكوب الذي إختلط بالتراب أمام التمساني ولا من يد حانية تربت على كتفي او تمسح دموعي.بل صيحات الاستهجان والسخرية كانت هي الحاضرة. ورجعت الى بيتنا بتميزات بينما المربى ذهب كما ذهبت ريالاته. كنا قبل أن يبرح النور نقف الى ركن عمارة في طرف الشارع ننتظر صاحب الوانيت الذي يسكن في شارع مجاور إتفقنا معه لاحقا يوصلنا الى المدرسة ويدرس معنا في المدرسة نفسها. قلت اننا نقف الى ركن عمارة من قبل أن يبرح النور ولكن صاحبنا يأتي دئما متأخرا. وذات يوم جاءتنا عجوز ترعد وتزبد وتتوعد وفي إعتقادها أننا هاربين من المدرسة. الشاهد أنها تركت أثراً بالغ على أنفسنا وأصبحنا لا ندري ماذا نفعل وصويحبنا يتأخر علينا. كم كنا نفرح عندما تريد إحدى قريباتنا النزول الى السوق وتصطحب أحدنا لمرافقتها مع الوعد بشراء حذاء له. كنا نقتتل على هذه الفرصة الثمينة التي لا تتكرر كثيرا. في حلقة من حلقات البؤس والشقاء والحادثة التي قصمت ظهر البعير وثبت ما لا يدع مجال للشك أننا لا نستطيع العيش وسط هذا المجتمع المتناقض وأن قريتنا أستر وأرحم لنا من هذا الشقاء. بينما كنا نحاول مجارات أقراننا في الشارع ونظهر أن عودنا إشتد وبدأنا مقارعتهم في ممارسة اللعب ونحاول أن نظهر أن مثلنا مثل سائر الاطفال يستطيعون اللعب واللهو وقت الاصيل ولا شيء ينقصنا. أخذ أحد الاطفال يلحق بأحدنا من شارع الى شارع في لعب بريء ولكن مع الفارق الطبقي بيننا وبينهم ومهارة اللعب وحسن التصرف. إنعطف من ركن أحد البيوت بكامل قوته واذا به تحت عجلات سيارة مسرعة قادمة من الشارع المقابل. وتطأ قدمه الغضه بكل حمولتها وتفتتتها له. هرب الذي كان يلحق به ولا تسعفني الذاكرة عن صاحب السيارة والذي أذكره أن أخينا مكث ردحا من الزمن في احد غرف مستشفى الملك فيصل. حتى خرج بحمد الله ويبدو أن آثار ذلك الحادث باقية حتى الآن. ان محاولة استحلاب الذاكرة لفترة زمنية ألقت بظلالها القاتمة على نفسياتنا مغامرة ممزوجة بالاسى والحزن والمرارة خاصة على من كان معنا وشاركنا شضف العيش ورحل عنا في ذلك المكان والحي والشارع. ولا اخفيكم ان الحنين يجذبني دائما الى حيث ذلك الشارع الضيق والبيت الذي ساهم في رسم ملامحنا الباهته لا لشيء ولكن لجلد الذات ربما واسترجاع عبثا خطواتنا المبعثرة. نعم البيوت هي البيوت والشوارع هي الشوارع ولكن الاجساد تبدلت. رحل من رحل وغادر من غادر و لم يعد لذلك الفكهاني وعربته ذات الرائحة المميزة او ذلك الجزار البسيط وميزانه الازرق وصنجاته وتلك الشخصية التي كانت تخيفنا عند سماعها لها وجود. لن يستطيع أحد ان يأخذ زمن غيره. زرت ذلك المكان والمسجد ووقفت مشدوها طرف الشارع واستحضرت الماضي وبحثت عن برجونات فقدناها هناك وصورة السنجاب الاحمر الذي يقال انه كسيب الا انني لا أتذكر اني كسبت ذات مرة به.بحثت عن بقايا عطر او كتاب عن ألم وحسرة وعن زجاجة المربى التي حطمهما الاوباش وحطموا قلبي معها. لا شيء يستحق الذكر.