من الطبيعي أن تتسبب المواجهة بين الطوائف، بغموض في فهم طائفة من قبل طائفة أخرى، ويترتب على ذلك فوضى في العلاقة بيهنما. وغالبا ما يكون سبب هذه الفوضى، قفز فوق حقيقة الخلاف واتخاذ مواقف مبنية على آراء مسبقة بسياق عاطفي، ومشحونة بمشاعر مرتبطة بتجارب شخصية، وحكايات اجتماعية أكثر من ارتباطها بتكييف منهجي، وفهم معرفي. ومن النماذج البارزة في فوضى الجدل، وتفاوت المواقف، ما نسمع من أطروحات مختزلة تتراوح بين إزالة الفوارق بالكامل والدعوة للاتحاد، إلى مفاصلة كاملة وتصنيف الآخر بأنه أعدى الأعداء من البشر.
الحقيقة أولاً
والتكييف المنهجي لا يعني الوصول إلى نقطة التقاء، بل يعني آلية منضبطة علميا في تحديد الفوارق كحقائق مجردة، ليس للمواقف المسبقة ولا للعاطفة دور فيها. هذه المنهجية تقتضي معرفة متوازنة ونزيهة في القضايا الأساسية التي تميز الطوائف بعضها عن بعض، ثم تحديد إن كانت المقاربة ممكنة أو غير ممكنة. ومن بين أبرز هذه القضايا ثوابت كل طائفة ومرجعيتها، ونظرتها للغيب، والكون، والحياة، والتاريخ، وبنائها الاجتماعي، وتناولها للسياسة، إلخ.
وقبل الشروع في بيان هذه الفوارق، لا بد من الإشارة إلى خطأ شائع، وهو اعتقاد أن المنتسبين للإسلام هم السنة والشيعة فقط، وبذلك يكون ليس كل سني شيعيا، و ليس كل شيعي سنيا. وهذا غير صحيح، فكثير من المحسوبين من الطوائف الإسلامية مثل المعتزلة، والخوارج، ومن على نهجهم، ليسوا من السنة ولا من الشيعة.
ونقطة أخرى ينبغي التنبيه عليها، وهي أن المقصود بالشيعة في هذا المقال هم الطائفة الإثنا عشرية، و الذين يمثلون غالبية الشيعة في العالم الإسلامي.
الانتماء والثوابت
تعريف الانتماء لكل طائفة، مدخل جيد لدراسة بقية الفروق، لأن التعريف -كما يقال- جامع مانع، وبذلك، فإن معرفة شرط الانتماء تحدد من يعتبر داخل الطائفة ممن يعتبر خارجها. وما دام الكلام في سياق الفوارق، فيكفينا الإشارة إلى ما يميز الطائفتين كل عن الأخرى في الانتماء بطريقة تصادمية، تجعل الفريقين في معسكرين منفصلين تماما.
للسنة والشيعة نظرتان مختلفتان تجاه أركان الإيمان والإسلام، ومعظم هذه الخلافات يمكن الادعاء أنها في التفاصيل، ومن ثم وجود هامش لمن يقول إنه جدل مذهبي داخل الدين. لكن تبقى قضيتان من الثوابت لا يجادل أي من الفريقين أنها أساسية ومركزية، وليست تفصيلية أو فرعية، وهي الموقف من الإمامة، والموقف من الصحابة، والتي يقف فيها الطرفان موقفا متناقضا، لا يمكن إدراجه تحت تعريف المذهب، بل هو لديانتين مختلفتين.
يرى الشيعة أن كل أركان الإيمان والإسلام -ما عدا الشهادتين- تأتي في أهميتها بعد الإمامة، ولا يمكن النجاة في الآخرة إلا بالإيمان بالإمامة. وتتفق كل طوائف الشيعة الإثناعشرية في القديم والحديث على أن من ينكر إمامة الأئمة الإثناعشر كافر خارج عن الملة.
والإمامة لا يقصد بها إمامة الحكم، بل لها معنى أعلى من ذلك بكثير، وهو مقام شبيه بالنبوة، فالإمام معصوم، وقوله وعمله وتقريره شرع، كما سيأتي تفصيله بعد قليل. أما أهل السنة فيرفضون قطعيا إعطاء العصمة لغير الأنبياء، ويعتبرون من يقول بذلك قد ضل ضلالا مبينا، وبعضهم يحكم بكفره.
وفي مقابل ركن الإمامة عند الشيعة، فإن من ثوابت أهل السنة التي أجمعوا عليها عدالة الصحابة رضي الله عنهم (العدالة هي أنهم لا يتعمدون الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم) وما يترتب على ذلك من استنتاجات خاصة في رواية الحديث.
في المقابل، يرى الشيعة أن أقل أحوال الصحابة ضلال وخيانة بسبب تآمرهم (طبقا لكتب الشيعة) على تعطيل ما تعهدوا به من تثبيت إمامة علي (يستثنى من ذلك قليل من الصحابة يسمونهم المنتجبين).
فنحن أمام إشكالين كبيرين، ركن الإمامة عند الشيعة، الذي يعتبره السنة ضلالا مبينا، والإجماع على عدالة الصحابة عند السنة، الذين يعتبرهم الشيعة خونة لما تعهدوا به، بل مرتدين. هذان الإشكالان يصعب الوصول لنقطة لقاء فيهما، إلا بتخلي أحد الطرفين عن أصل مبدئه، وخروجه من تعريف الطائفة التي ينتمي إليها.
النصوص ومصادر التشريع
في حين يعتقد أهل السنة أن لا حجة بعد القرآن إلا بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الشيعة يعتبرون كل ما جاء عن الأئمة الإثنا عشر (بمن فيهم الغائب) من قول، أو فعل، أو تقرير، حجة كاملة لها نفس حكم ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام. ولهذا، فإن كمية الأحاديث المنسوبة للأئمة في كتب الشيعة، تزيد عشرات المرات عن الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم.
لكن الفرق لا يقف هنا، بل يمتد إلى فرق في النظر للقرآن وسلامته من التحريف، وفهمه وتفسيره، وفرق في النصوص التي لها مرجعية غير القرآن وهي الكتب المعتبرة للحديث، وفرق في طريقة الرواية، وفرق في مفهوم الأسانيد والتصحيح والتضعيف، إلخ.
القرآن وسلامته من التحريف
في التعامل مع القرآن، يجمع كل علماء أهل السنة على سلامة القرآن من التحريف، ويجمعون على تكفير من يقول بالتحريف أو النقصان أو الزيادة، حتى لو كان حرفا أو شيئا يسيرا، ولا يتأولون لمن يقول بالتحريف.
أما الشيعة، فيجمعون على عدم تكفير من يقول بالتحريف، ويقبلون بمرجعيته وروايته، ويرون أن ذلك لا يقدح بفضله وتزكيته لكنهم يختلفون في القول بالتحريف نفسه.
فهم القرآن وتفسيره والاستنباط منه
يجمع أهل السنة على أن القرآن يفسر بالقرآن، ثم بالحديث، ثم بفهم الصحابة، ثم بمن بعدهم، ثم باللغة العربية، وليس لديهم إشكال في القبول بظاهر القرآن، ما لم ترد قرينة على تأويل خاص، أو تفسير يختلف عن الظاهر.
أما الشيعة، فهم متفقون أن القرآن لا يمكن فهمه إلا بقيّم، والقيم هو أحد الأئمة الاثني عشر. ولذلك فالشيعة لا يعترفون بتفاسير أهل السنة، لأنها قائمة على المعاني المباشرة، بل لهم تفاسيرهم القائمة على المعاني الباطنة التي يعرفها الأئمة.
كما يؤمن الشيعة أن قول الإمام مثل قول “الله”، وللإمام حق النسخ والتقييد والتخصيص للقرآن. وكذلك يؤمنون بأن للقرآن معاني باطنة تخالف المعاني الظاهرة، وبأن جل ما في القرآن نزل في الأئمة وفي أعدائهم.
بعد هذا البيان في موقف الفريقين من القرآن وتفسيره، هل نعتبرهما في ميدان مذهبين داخل دين واحد؟ أو في دينين مختلفين؟
كتب الحديث
يعتمد أهل السنة في معرفة الحديث على سلسلة من الكتب الحديثية في مقدمتها الصحيحين، ولا يقبلون حديثا إلا بإسناد، ويُخضعون كل الأحاديث في سندها ومتنها للتصحيح والتضعيف بأحكام معروفة. وإضافة لشروط كثيرة، لا يمكن أن يكون الحديث صحيحا إلا أن يكون مرويا عن صحابي، لأن الصحابة عند أهل السنة هم أول من حمل الدين. كما يرى أهل السنة أن الأصل في صحيحي البخاري ومسلم، هو الصحة مع تحفظات قليلة جدا على بعض الأحاديث في صحيح مسلم.
الشيعة في المقابل، لا يعترفون بكتب أهل السنة ولا يعتقدون بصحتها، لأنها مبنية على أحاديث رواها الصحابة الذين يعتبرونهم ضلالا، ما عدا استثناءات قليلة منهم كما ذكر أعلاه. وللشيعة منهج رواية مختلف تماما عن أهل السنة، مبني على أن الأئمة بذاتهم مشرعون لأنهم معصومون، وقواعد كثيرة أخرى.
ويرفض الشيعة كتب الحديث السنية، ولهم منظومة مختلفة تماما من كتب الحديث تشتمل على مجموعتين، المجموعة الأولى: أربعة صدرت في المائة الرابعة للهجرة، والمجموعة الثانية: أربعة صدرت متأخرة بعد الألف هجرية، ومعظم هذه الأحاديث منسوبة للأئمة بمن فيهم الغائب.
ولم يظهر علم دراسة الإسناد والتصحيح والتضعيف عند الشيعة بشكل جاد، إلا بعد 900 هجرية على يد زين الدين العاملي المتوفي 965هـ. ويعترف علماء الشيعة أن علم الإسناد والتصحيح والتضعيف عند السنة، لو طبق على كتب الحديث الشيعية، فستلغي كل أحاديث الكتب الثمانية.
وبذلك فإن منظومة الحديث عند الشيعة مختلفة تماما، في مصدرها، ومبناها، ومنهجها، وطبيعتها، وحجيتها، كليا عن منظومة الحديث عند السنة. وبهذا الاعتبار، هل نستطيع اعتبار السنة والشيعة مذهبين داخل دين واحد أو دينين مختلفين؟
النظام الاجتماعي
في البناء الاجتماعي، يعتبر أهل السنة كل مسلم مسؤولا أمام الله بذاته، قادر على أن يتعبد الله لنفسه، أو أن يفتي لغيره إذا تعلم العلم الشرعي، دون الحاجة إلى تعميد من جهة شرعية. والعالم عند السنة يستفتى لكن فتواه غير ملزمة فللمستفتي الحق أن يسأل غيره إن لم يطمئن لإجابته. وفيما عدا الزكاة الشرعية، لا يوجد أي إلزام للسني بدفع المال لأي جهة، وله الحق أن يدافع عن ماله، حتى لو قتل في سبيل ذلك.
أما عند الشيعة، فالمجتمع مقسم إلى مقلد ومجتهد، والمجتهد لا يمكن أن يصل لدرجة الاجتهاد إلا بتعميد من الحوزة. والمقلد ملزم بأن يختار مجتهدا يستفتيه في كل شؤون حياته (الاستثناءات قليلة) ، كما يلزم أن يدفع للمجتهد الذي يقلده الخمس (خمس ما يزيد عن مؤونته السنوية). وبهذا يكون المجتمع مرهونا لمجموعة من المجتهدين في تناوله للدين، وتصرفه بالأموال والأيتام والأوقاف وغيرها.
السياسة والحكم
في نظرتهم للسياسة والسلطة، يعتبر أهل السنة الحكم مسؤولية متحققة فورا، وليست مرتبطة بإمام معصوم. ولدى أهل السنة منظومة سياسية كاملة في مفاهيم الحرب والسلم، والعلاقة مع الأمم الأخرى، وفي إدارة الدولة، ونظرة لطبيعة السلطة والشريعة، وتجربة ثرية على مدى قرون طويلة. ويرى أهل السنة أنهم هم المعنيون بذلك، ولا يجوز أن يتولى عليهم كافر، أو غير سني.
في المقابل، لا توجد منظومة سياسية في الموروث الشيعي سوى انتظار المهدي، ويؤكد هذا الموروث على تحاشي النشاط السياسي، إلى أن يخرج المهدي فيقيم الدولة. أما الفترة التي عاش الشيعة فيها تحت سلطة حكام شيعة مثل الصفويين، فقد كان الحكم أقرب لثنائية الكنيسة والملك في أوربا، منه إلى لحكم عند أهل السنة.
وبقي حال الشيعة دون تنظير للسلطة، إلى أن ظهر الخميني فحول نظرية ولاية الفقيه إلى مشروع عملي، وأقام الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وتسبب غياب أي مشروع سياسي في التراث الشيعي، باضطرار الخميني حين أقام الدولة، لأن يستعير من السنة ومن التجربة الغربية الكثير من المبادئ، حتى يقيم جمهوريته.
المسيرة التاريخية
أخذ التاريخ السياسي والشرعي للسنة والشيعة من مختلفين تماما، سواء من ناحية النفوذ والسلطة، أو من ناحية الوجود والجغرافيا. ولم يلتقِ هذان المساران أبدا إلا على شكل مواجهات، أو حروب، أو تبادل الاتهامات من الطرفين، بالكفر والضلال والكذب والخيانة.
تاريخ السنة السياسي يتمثل في التاريخ المعروف الذي بدأ بالعهد النبوي، ثم العهد الراشدي، ثم الأموي، والعباسي، والمماليك، والعثمانيين.
و التاريخ الشرعي بدأ بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم علماء الصحابة، وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة، ثم كل طبقات العلماء، من التابعين وأتباع التابعين، والائمة الأربعة، وأصحابهم، ومن أتى بعدهم. أما توسع العلوم الشرعية، فهو كذلك مرتبط بتاريخ تطور العلوم الشرعية الإسلامية نفسها، وظهور المدارس الفقهية، وتدوين الحديث وخدمته بعد ذلك بالمصطلح والتخريج، ودراسة الأسانيد وغيره.
مسار تاريخ الشيعة السياسي كان مختلفا عن الخط العام في التاريخ الإسلامي، حيث لم يحصل له نفوذ إلا أيام البويهيين كوزراء عند العباسيين، وأيام الحكم الفاطمي في مصر، والصفويين في إيران، ثم ثورة الخميني. وحتى تولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخلافة، لم يكن جزءا من التاريخ السياسي للشيعة، لأن توليه لم يكن في سياق الإمامة الشيعية، بل كان في سياق القيادة السياسية.
أما التاريخ الشرعي فقصته أكثر ابتعادا عن الخط العام للتاريخ الإسلامي، وكان أول تميز للتشيع العقدي الصريح بالمفهوم الإمامي بعد 120 سنة من الهجرة، حين تميزت الرافضة بفكرة الرفض الصريح، ثم تبع ذلك مرحلة التدوين في نهاية المائة الثالثة الهجرية، ثم لم يكن بعد ذلك أي نشاط حقيقي لعلماء الشيعة إلا بعد ظهور الدولة الصفوية في إيران.
ويخطئ من يظن أن التشيع لعلي رضي الله عنه أيام الفتنة الكبرى هو بداية التشيع العقدي، فهذا ليس له علاقة بالتشيع الإثناعشري، بل هو تشيع سياسي سني، وموقف اتخذه عدد كبير من الصحابة، وهو الرأي الراجح عند أهل السنة، ولا يمكن مطلقا ربطه بالتشيع العقدي. وكذلك لا علاقة لشخصية عبدالله بن سبأ والمختار الثقفي بالتشيع الإثنا عشري، فهذه نتوءات تاريخية تم القضاء عليها بالكامل، قبل أن ينطلق التشيع الإثنا عشري.
ديانتان
هذه الفوارق حقائق لا ينكرها السنة ولا الشيعة،ويتضح جليا أن المشكلة في الثوابت وأصل المنهجية، في التلقي والفهم والنظرة للهوية والتاريخ والسياسة والنظام الاجتماعي والحالة النفسية العامة والخاصة وليست في التفاصيل. ومن الملاحظات التي يستنطبها المدقق في هذا العرض، أن مسيرة التراثين ظلت بعيدة بعضها عن بعض، منذ أن نشأ التشيع حتى الآن.
ولذلك فإنه يخدع نفسه من يظن أن منظومتين متضادتين في كثير من ثوابتها ومنهجيتها، يمكن أن تتحدا أو تقدما تنازلات حتى تصلا إلى نقطة التقاء، ولا يمكن أن يقول بذلك إلا الجهلة من الطرفين. والنظرة العادلة المتجردة تقود من يستحضر هذه الفوارق إلى الاعتقاد بكل أمانة، أنه لا يتعامل مع مذهبين، بل ديانتين مختلفتين.
ليس الغرض من كتابة هذا المقال تحديد كيفية تعامل الطائفتين مع بعضهما، لكن الغرض بيان الحقائق كما هي دون خداع للنفس، ولا تفكير رغبوي، ولا تمنيات خيالية.