هي قصة للعبرة والعظة .. من لم يعش احداثها واقعا فليحمد الله على نعمة الأمن ..
إذا فقد الأمن فقد كل شيء ، فلا طعم للحياة ، ولا لذة لطعام او شراب ، ولا راحة في يقظة او نوم ..
فقدان الأمن كارثة شاملة لا يمكن وصفها .. ربما يكون أحد اسباب فقدان الأمن هو المواطن نفسه لعدم احساسه بأهميته ، او لتهاونه في القيام بواجبه او تجاهله و تغافله لأمر ما قد تكون من نتائجه الإخلال بالأمن او فقدانه .
في العاشرة مساء وكعادتي اليومية اقفلت ابواب محلي وحملت معي بعض المواد الغذائية والقليل من الحلوى لأطفالي الصغار وتوجهت صوب منزلي اكاد اسقط من الجوع والتعب ، دخلت منزلي واستعجلت العشاء كي اتمكن من النوم مبكرا استعدادا ليوم عمل جديد ، اخذت العب منهكا مع الاطفال كي يمضي وقت الانتظار الذي يبدو طويلا ومملا الى حين وصول طعام العشاء ..
اخيرا والحمد لله بدأنا تناول عشائنا وكانت زوجتي تملي على مسامعي مخططات الغد من المشاوير والمشتروات حيث الغد يوم اجازة ، وكنت اعدها خيرا واكرر : الصباح رباح .
توجهت بعد العشاء بقليل الى سريري لعدم قدرتي على مقاومة النوم والارهاق ، وما ان استلقيت الا وقد غرقت في نوم عميق ..
في الصباح الباكر ، استيقضت على غير عادتي ، مقبوضا وقلقا بدون سبب واضح ، صليت الصبح متأخرا ثم تناولت تمرات وقليل من الماء حيث سأتناول الافطار كعادتي مع جاري في السوق ، خرجت مسرعا ياتجاه محلي كي اتمكن من اخراج البضائع الخاصة بنهاية الاسبوع وترتيبها على الرصيف المقابل للمحل قبل ان يبدأ السوق ويزدحم ..
السابعة صباحا كنت قد انتهيت من تجهيز بضائعي وجلست لارتاح قليلا على كرسي خشبي داخل المحل في انتظار الزبائن الذين سيتوافدون بكثرة خلال دقائق معدودة ..
بينما اجلس كنت انظر الى المحلات في الجهة المقابلة حيث تأخر الجميع على غير عادتهم وما زالت محلاتهم مغلقة بإستثناء المقهى الذي يفتح ابوابه مبكرا بعد الفجر مباشرة .. انتابني شيء من القلق عندما لاحظت قلة اعداد المتسوقين ، خرجت لاستطلع الأمر فإذا بأكثر المحلات المجاورة مغلقة والناس يتناقصون بشكل مريب ..
عدت لداخل المحل لأجري اتصالا هاتفيا بصديقي وجاري صاحب المحل المقابل والذي لم يحضر حتى الآن ، رفعت سماعة الهاتف واذا بي افاجأ بأن الهاتف لا يعمل ..
اسرعت الى جاكيتي المعلق خلف الباب لاخرج منه هاتفي المحمول من اجل القيام بالاتصال لأفاجأ بأنه ايضا جامد وصامت كالصخر .. دخلت الى القسم الخلفي من المحل حيث يقبع جهاز تلفاز صغير لا نشاهده إلا في ليالي شهر رمضان ، فتحت التلفاز ولكن شاشته بيضاء خالية من البث ، حاولت ضبطه ظنا مني ان هناك خلل ولكن دون جدوى..
ازداد قلقي وتسلل الخوف الى قلبي وخاصة حينما بدأ المكان يخلو من الناس ، وقد عادت بعض المحلات البعيدة لتغلق ابوابها ..
اغلقت محلي بسرعة وخرجت كي استطلع الأمر ، وعند اول اشخاص قابلتهم سمعتهم يتحدثون بخوف وقلق عن هجومات واغتيالات واسقاط طائرات ، كاد قلبي ان ينخلع ، فتوجهت اليهم وانا لا اعرف احدا منهم كي افهم مالذي يحدث حولي ..
نزلت كلماتهم علي كالصواعق المزلزلة ، هجوم مباغت بعد منتصف ليلة البارحة من جهات متعددة على حدود البلاد وقصف صاروخي مستمر اوقع اعداد من القتلى واحدث دمارا هائلا بالمطارات والمواقع العسكرية ..
تم اسقاط بعض طائراتنا ، واغتيال حكام المناطق الحدودية بأيدي عملاء من الداخل والسيطرة على بعض المدن والمناطق الحدودية ، كما تم تفجير مبنى الاتصالات والتلفزيون في العاصمة ، وهناك انقطاع للكهرباء كما تم قطع الطرق الرئيسية بين عدة مدن مهمة ..
فقدت اتزاني ولم اعد استطيع الوقوف فجلست فورا على الأرض ، وانا اهذي كالمجنون .. مالذي يحدث ، هل سنفقد أمننا ، هل سنصبح في فوضى كالبلد المجاور ، هل سنعذب ، هل سنقتل ، ماالذي سيحدث لاطفالنا ، زوجاتنا ، اباءنا وامهاتنا ، هل هناك ميليشيات مسلحة ستعمل فينا القتل والترويع والتعذيب والاغتصاب ، هل وصلوا الان ، هل سننجوا بأنفسنا ، هل هل هل ؟؟؟؟
استجمعت قواي واتجهت مسرعا الى منزلي وما ان فتحت الباب حتى بدأت الصراخ ، لم يجبني احد ، فدخلت مرعوبا افتش عنهم ، كان الجميع يغطون في نوم عميق لا يدرون ماذا يجري حولهم ، مما زاد في ألمي فلم اتمالك نفسي عندها اخذت اجهش بالبكاء ..
تمالكت نفسي وقررت ان احاول اي شيء من شأنه ان يجنبنا مخاطر يبدو انها قادمة سريعا .. اقفلت على زوجتي واطفالي وخرجت مسرعا متلهفا للقاء اي احد من الجيران او الاصدقاء كي نتدارس ونقرر خطواتنا القادمة ، كان الجميع نائمون ..
فجأة اخترق سمعي صوت كالرعد كان يزداد ارتفاعا حتى كاد ان يصم أذني ، انها طائرة مرت من فوقنا على ارتفاع منخفض ، وما إن ابتعدت بقليل حتى اهتزت الارض لدوي انفجار هائل انقطعت على اثره الكهرباء ..
اتجهت الى الشارع المقابل فإذا سيارة شرطة متجهة بسرعة الى داخل السوق ، فاخذت اركض باتجاهها وما ان وصلت قريبا منها حتى رأيت الناس المتواجدين يلتفون حولها ، والرجل بداخلها يوجه لهم الكلام بأن الزموا بيوتكم ولا تخرجون الا لضرورة ملحة ..
كانت السيارة تنتظر اشخاصا استقلوها ثم انطلقت بسرعة خارج السوق ، فقررت الذهاب الى مبنى الشرطة الذي يبعد عشر دقائق تقريبا ، وما ان وصلت حتى فوجئت باعداد كبيرة من السيارات المدنية والعسكرية تحيط بمبنى الشرطة ورجال مسلحون بالعشرات يقفون امام
المبنى ..
حينما اقتربت صاح بي احدهم قائلا : ابتعد والا سنطلق النار ، توقفت مذهولا واخذت ارجوه من بعيد ان يسمح لي بكلمة واحدة فقط ..
اقترب مني احدهم شاهرا سلاحه في وجهي وسألني : ماذا تريد ؟ فاجبته وانا ارتعش من الخوف ، مالذي يحدث ارجوك اخبرني ؟
فاجابني بغضب شديد : البلد يتعرض لهجوم مباغت وخيانات كبيرة ، عد لمنزلك ولا تخرج منه ابدا ، بعد ساعات لن يتبقى هنا احد من رجال الامن ، انتم المدنيون فقط ستبقون ، تصرفوا بما يضمن حياتكم وبقاءكم ، هيا غادر بسرعة قبا ان يرديك احدهم .
اقفلت راجعا وما ان سرت قليلا حتى سمعت دوي انفجار آخر اشد قوة من الانفجار الاول عصف بالأجواء وتناثر معه الحطام وانهالت الاتربة والرمال فوق رؤوسنا ، فأخذت اجري واسقط وكأن شللا اصاب أرجلي ، قلبي يكاد ان يخرج من بين أضلعي ، صدري يضيق واحس
بإختناق ودوار وغثيان شديد ..
اصبحت اشعر ان الطريق الى منزلي يبتعد اكثر وان الوصول اليه بات صعبا ، صورة اطفالي وزوجتي ترتسم في عقلي باشكال مخيفة ومرعبة ..
هم قتلى ، تحت الانقاض احياء يصرخون ، خطفوا ، أسرى بيد الاعداء ، تعذبهم الميليشيات المسلحة ..
أن اصل اليهم فاجدهم بخير لم يمسهم مكروه ، كان هذا اثمن واغلى شيء لدي في هذه اللحظات ..
اخيرا ... تمكنت من الاقتراب من الحي الذي اسكنه ، أخذت اطوف ببصري على كل اطرافه وزواياه كي اطمئن على سلامته .. دخلت مسرعا فإذا الناس يتجمعون خارج منازلهم والذعر باد على وجوههم ، رجال واطفال ونساء يدورون ويجتمعون ثم يفترقون وكأنهم تائهون ..
اتجهت الى منزلي ودخلت فاذا الزوجة والاطفال يقفون وراء الباب والهلع يملأ قلوبهم وآثار البكاء على وجوههم ..
اوصدنا الباب بقوة ودلفنا مسرعين الى الداخل نغلق بابا وراء آخر من شدة الخوف ، وهناك وبصوت خافت ومرتعش تسألني زوجتي : مالذي يحدث ؟
طلبت منها احضار مذياعنا القديم كي نسمع الاخبار ونعرف التطورات ونتصرف على ضوءها ..
الساعة الآن العاشرة والنصف صباحا .. لاكهرباء ولا اتصالات ولا اي وسيلة سوى المذياع يمكنها ان توصلنا بالعالم من حولنا ..
احضرت المذياع ولكنه يحتاج لبطاريات جديدة ، قررت الخروج للبحث عن اي محل لازال مفتوحا كي احضر البطاريات وكذلك بعض المواد الغذائية الأساسية ودواء للطفلة الصغيرة حيث حرارتها مرتفعة منذ البارحة..
بينما أعطي الزوجة بعض التعليمات المهمة جدا لاتباعها بعد خروجي وحتى عودتي وبينما أهم بالخروج ، واذا بطرق شديد جدا على الباب ..
تجمدت في مكاني وانهارت الزوجة فورا في بكاء غير طبيعي تبعها الاطفال في البكاء ، مما زاد من خوفي وهلعي ..
ترددت في الخروج فصورة الميليشيات المسلحة لا تفارق مخيلتي ، سيكسرون الباب ويدخلون وسيفعلون بنا الافاعيل ، نعرفهم جيدا ، رأينا جرائمهم التي لا يمكن وصفها بحق اخوان لنا في البلدان المجاورة..
انهم يظهرون من العدم ، ينتشرون بسرعة في كل مكان ، لا يسلم احد من انتهاكاتهم ، يغتصبون النساء ، ويسلخون جلود الاطفال ، ويفقؤن اعين الرجال احياء ويعذبونهم حتى الموت ..
الطرق يزداد على الباب ، واصوات تتعالى ، اتجهت الى المطبخ كالمجنون ابحث عن سكين او ساطور ، تسلحت بعدة سكاكين واخفيت بعضا منها تحت ملابسي وفي جواربي ، اقفلت على الزوجة والاطفال واتجهت بلا عقل الى الباب ..
المواضيع المتشابهه 
من الأمن إلى الخوف .. ما بين عشية وضحاها 
العرض المتطور
