الجامية هي فرقة تنسب إلى الشيخ محمد أمان الجامي، رحمه الله، الذي أحدث هو والشيخ ربيع المدخلي جلبة كبيرة في الوسط الديني أثناء أزمة الخليج من خلال شنَّ حملة واسعة جدًا مدعومة حكوميًا ضد مشايخ الصحوة البارزين بزعم أنَّهم مبتدعة وحزبيون وخوارج يتوسلون التحريض والنقد العلني بواسطة الأشرطة التسجيلية والمحاضرات بغرض الاستيلاء على السلطة. توسعت الجامية بعد ذلك فظهرت في أكثر من بلد عربي تحت لافتة السلفية، لكنها ظلت مثل الخلايا النائمة، كامنة حتى حين.
تغلو الجامية غلوًا كبيرًا في طاعة ولي الأمر، لذا اشتُهِرَ عنهم أنَّهم مرجئة مع الحكَّام خوارجٌ مع الدعاة.
بالتزامن مع تلك الحملة “الدينية” الجامية الشعواء ، انطلقت حملة “إعلامية” ضخمة يقودها بعض المنتسبين لليبرالية تهااجم مشايخ الصحوة ذاتهم مستخدمة ذات التهم التي استخدمتها الجامية. شاركت في هذه الحملة جرائد ودور نشر وكتَّاب من الداخل والخارج …
من رحم هذا الحلف انطلق الزواج الكاثوليكي بين الجامية والليبرالية الذي أنجب ما يسمى بالليبروجامية، وهو فصيل صغير يجمع خليطًا من الليبراليين والجامية بجامع الدفاع عن ولي الأمر عملًا بالقاعدة الإخوانية الشهيرة التي لطالما هاجمتها الجامية وسخرت منها: “نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه”، ولا يهم الجامية كثيرًا إن كان الاختلاف في الأصول العقدية وسيادة الشريعة.
تم القبض على مشايخ الصحوة البارزين بتهمة التحريض والانتساب لجماعات سرية، وأودعوا السجون.
شيئًا فشيئًا، هدأ السجال بين الخصوم، لكن الجامية كانت على موعدٍ مع أسوأ كوابيسها داخليًّا: لقد بدأت الجامية تأكل أبناءها حين لم تجد ما تأكله. خرجت من عباءة الجامية مجموعات عديدة كل مجموعة منها تُبدِّع وتفسق ما سواها، وفي سنوات قليلة همدت الجامية واختفت كما لو أنها لم توجد.
تم إطلاق سراح مشايخ الصحوة بعد سنوات قليلة بعد أن تبيّن أنَّهم لم يكونوا حزبيين أو خوارج، وأنهم لا ينتمون إلى جماعات سرية، وأنَّهم مجرد مطالبون بالإصلاح السياسي.
جرت تحت الجسر مياه كثيرة بين الحكومة ومشايخ الصحوة لاحقًا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وجرى احتواؤهم وإشراكهم فيما عُرِف بالحوار الوطني.
جاء الربيع العربي وخلطَ الأوراق من جديد، وأفرزت الانتخابات في تونس وليبيا ومصر فوزًا كاسحًا للإخوان المسلمين، وكان واضحًا أن الدول التي على طريق الثورة كاليمن وسوريا ستنتهي إلى حكم إخواني.
هنا فقط ظهرت الحاجة الملحة إلى تفعيل خدمة الليبروجامية مرّة أخرى لمنع تمدد الإخوان واكتساحهم للعالم العربي، طولًا وعرضًا.
هذه المرة كان الخطر أكبر، لذا احتيج إلى ماكينة دعائية ضخمة شملت قنواتٍ فضائية ودورَ نشرٍ ومراكزَ دراسات وجرائدَ وكتَّابًا وأعضاءً في مواقع التواصل الاجتماعي ك والفيسبوك وحقوقيين، بل ومعارضين سياسيين على الطلب ، لأخذ زمام المبادرة وإنتاج ما عُرِف لاحقًا باسم الثورات المضادة التي كان يهدف عرَّابوها من ورائها إلى إسقاط الحكومات الإسلامية بمساعدة العسكر ورموز النظام السابق وتشويه صورة الإسلام السياسي مرة بوصفه بالعميل الإيراني وأخرى بوصفه بالحليف الأمريكي وثالثة بالخوارج و”رابعة ” بالنظام الدموي الإقصائي وخامسة بإنتاج الفوضى والدمار.
وأصبح الصف الثاني من مشايخ الجامية ضيوفًا دائمين في القنوات الفضائية يهاجمون من خلالها الإسلام السياسي الذي أتى به الربيع العربي بوصفه مؤامرة كونية على الإسلام، ويصرحون بأن الربيع العربي هو خروج على ولي الأمر الشرعي، وأن ستين سنة في حكم الطاغية خير من يوم بلا أمن.
ما الذي يجعل الجامية تركز في هجومها على الإسلام السياسي فقط وتتجاهل الغزو الأمريكي والنظام الكافر لمعمر القذافي وزين العابدين وبشار والحوثيين وإيران؟ ما السر وراء ذلك؟
لم يكن غريبًا أبدًا أن تقوم أمريكا وإيران والحوثيين، بل ونظام بشار الدموي، بنسخ ونشر وإذاعة ما تقوله الجامية في دفاعها عن ولي أمرها وبيان خطر الربيع العربي وكونه مؤامرة كونية ضد تلك الحكومات.
الجامية هي جسر العبور للعلمانية فما لله لله وما لولي الأمر لولي الأمر . هي لا تعبأ كثيرًا فيما إذا كان ما يقرره الحاكم في سياساته الداخلية أو الخارجية متماشيًا مع الإسلام أم كما فعل حزب النور،
الجامية جماعة محافظة جدًا، لدرجة إلغاء عقلها؛ فهي “تفترض” أن ليس بالإمكان أحسن مما كان؛ فهناك دائماً سيناريو أسوأ من السيناريو الذي اختاره لنا ولي الأمر جزاه الله خيراً .لذا فهي تشعر بالتهديد الشديد كلما تغير ميزان القوى.
التشاؤم هو السمة الغالبة لدى الجامية، وأنا هنا أتكلم عن الجامية المؤدلجين وليس الموظفين. لذا فهي تخشى الأسوأ دائماً ، لدرجة أنها تجد في انتقاد مرفق حكومي صغير تحريضًا وشَبهًا بالخوارج !
الجامية لا تتذكر من محنة الإمام أحمد سوى مقولته “لو كانت لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان”، ولا تتذكر مقولته : “إلا الدماء إلا الدماء”.
هل يغدو غريباً موقف جامية مصر ممثلين في حزب النور الذي لم يبال بقتل حكومة الإنقلاب لآلاف المسلمين وهل تغدو حجتهم التاريخية البشعة : “قتلهم من جاء بهم”، هل تغدو حجة غريبة ؟ هؤلاء القتلى هم مجرد collateral damage أضرار جانبية بالنسبة للجامية ، مجرد أرقام. كما هم قتلى نظام أمريكا ونظام بشار وحزب الله وإيران، وكما هم قتلى التكفيريين.
هناك تساهلٌ بشعٌ جدًّا في مسألة الدماء لدى الجامية، رغم كثرة الآيات والأحاديث التي تحذر من الولوغ في قتل النفس التي حرَّم الله، والتي تعتبر حمايتها من الضرورات الخمس التي جاء بها الإسلام.
في الحملة الجامية الأولى سمعنا خطيبًا يدعو لقطع رأسي الفتنة وفصلهما عن جسديهما. واليوم نسمع من يبرر قتل الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ، ونسمع من يهدد بكسر جماجم الآلاف ومحوهم من الخريطة.
لا ترى الجامية القتل الذي يجري أمام أعين الجميع من خلال عدسة السلطة المقعرة فتنة عظيمة ، لكنها من خلال عدستها المحدبة تجد في انتقاد مرفق حكومي صغير جريمة عظمى تهدد الأمن الوطني !
بعد الربيع العربي وإيقاظ خلاياها النائمة، وسّعت الجامية من مظلتها الشرعية، فلم تتوقف عند التحالف مع الليبرالية ، بل تعاونت مع النصارى كما جرى في انقلاب مصر، ودافعت عن الموقف الإسرائيلي كما جرى في حرب غزة، ودافعت عن الحلف الذي تبنته أمريكا الكافرة ضد الشعب السوري المسلم.
الجامية اليوم في أسوأ أحوالها أخلاقيًّا . أدرك هذا ربيع المدخلي متأخرًا فاعتذر، لكن عذره لم يعد مهمًّا. لقد خرج الجاميون الجدد على جامية الآباء المؤسسين، ولم يعد خصمهم مشايخ الصحوة البارزين، بل الشعوب العربية التوَّاقة للحرية والعدالة والمساواة وسيادة الشريعة.
اختفت صرخة الإمام أحمد: “إلا الدماء إلا الدماء” وسط صرخات البلطجية الجاميين في مصر وليبيا وسوريا والخليج “خوارج خوارج”، وهم يرقصون في ذات الوقت الذي يرقص فيه الصهاينة على أعتاب المسجد الأقصى تحضيرًا لاقتحامه .