تعدّدت آراء اللغويين والشرعيين في الأسباب التي تقف وراء خلو مقررات الأدب في المرحلة الثانوية من شعر «الغزل»، فهناك من يرى غيابه جناية، وهناك من يرى غيابه محيراً، وهناك من يرى هذا الغياب مبرراً لأسباب تربوية في المقام الأول. في هذا التحقيق نستطلع آراء المعنيين من مختلف المشارب والرؤى، لنقف على بعض أسباب الغياب أو التغييب.
يتحدّث في البداية الدكتور محمد بن إسماعيل الغامدي رئيس قسم اللغة العربية في وزارة التعليم فيقول: « لا شك بأن الأدب بمفهومه العام، والشعر على وجه الخصوص، يُعدُّ من أهم وأكبر مكونات الوجدان العربي، إذ لعب الشعر دوراً عظيماً في تكوين السواد الأعظم من قيمنا العربية الأصيلة، التي كرّسها الشعراء في قصائدهم، وتناقلتها الركبان، وغنّى بها السامر، حتى قيل بأن « الشعر ديوان العرب» وتوصل الكثير من المهتمين بالدراسات (السيسيولوجية) إلى أن العرب أمّة «مُشعرنة».
ويضيف الدكتور الغامدي: إنّ اختيار نوع النصوص الأدبية المبثوثة في مناهجنا، معضلة كبرى،لاسيّما المرحلة الثانوية، فالاعتماد على الكفايات اللغوية، والتركيز على تطبيقية اللغة جعل النطاق ضيقاً على صانعي المنهج، وحدَّ من تنويعهم لنوعية النصوص المختارة.
إضافة إلى أنّ تغييب النصوص الوجدانية، بصورة عامة، والشعر العاطفي بصورة خاصة أمر يبعث على الحيرةِ أحياناً، وعلى الدهشةِ أحياناً أخرى؛ فلا أجدُ مسوغاً لذلك أبداً، لاسيّما وأن الشعر حالة تعبيرية عمّا يدور في النفس الإنسانية، يطلقها ويريحها ويتغلغل في أعماقها، لاسيّما شعر الغزل العفيف منها، من هنا لابد من توظيف النصوص الشعرية العاطفية المنتقاة بعناية، بما يتسق والتكوين النفسي والعقلي والوجداني لطلاب وطالبات هذه المرحلة، فجميعهم/ن يحتاج إلى توجيه العاطفة المتقدة لديهم/ن في هذه السن وجهةً سليمة، ترتقي بذائقتهم من خلال هذه النصوص الشعرية الوجدانية، ولا أبالغ عندما أقول بأن هناك حالة من (التصحّر) العاطفي الذي ينهش في الوجدان الجمعي، ينبغي أن تتم معالجتها من خلال النصوص الشعرية والنثرية الوجدانية؛ فهي الأكثر عمقاً وتغلغلاً في النفس البشرية، والأقدر على إحداث حالة من (الاخضرار) العاطفي، والسموّ بالذائقة إلى أسما معانيها.
لأنّ الشعر الوجداني: غزلاً ومناجاةً ووصفاً وتأملاً... من أهم روافد التربية، فهو قيمة إنسانية لا غنى عنها، ولا تستقيم شخصية الإنسان السوّي دون تغذيتها، بصور من النتاج العربي الكثيف في هذا الجانب، وبأسلوب عصري يقارب التكوين العقلي والنفسي والحضاري لطلابنا وطالباتنا؛ فهذا كفيل، إلى جوانب أخرى، أن يستثير الإبداع فيهم ويزرع الأمل والتفاؤل والمحبة في نفوسهم، ويأخذهم إلى عوالم من الخيال والمتعة المقننة.
الكاتب والمشرف التربوي يحيى العلكمي يرى أنّ مناقشة هذا الموضوع تقتضي البدء بسؤال رديف للسؤال المطروح وهو: هل يمكن لطلابنا أن يتماهوا مع غرض الغزل والتشبيب في شعرنا العربي وهم منساقون وراء ما يسمى بالشيلات؟!
أذكر أننا تخرجنا في الثانوية العامة في الثمانينات الميلادية وأقلنا يحفظ ما لا يقل عن مئتي بيت من الشعر العربي ومنها شعر الغزل.
ويضيف «العلكمي» لعل غياب هذا الشعر عن مقررات اليوم جاء نتيجة لاتكاء تصميمها على النظرية البنائية التي تعتمد التعلم الذاتي، واللغة من أجل الحياة جاعلة اﻷساس هو التراكم المعرفي والمهاري وفق الكفايات اللغوية بغض النظر عما يدرس من نصوص.
ويؤكد «العلكمي» بشكل عام على أنّ الدرس اﻷدبي خلا إلا قليلا من غرض الغزل لذلكم الاعتبار، ويبدو أن اعتبارات أخرى كانت مناهضة لوجود شعر الغزل في كتب الطلاب قد آتت ثمارها. وفي ذلك عندي جناية على غرض شعري من أهم اﻷغراض وقعا وتأثيرا في ذائقة الطالب ونظرته إلى الحياة ناهيك عن أنه سجل وقائع وأحداثاً وأبرز شخوصا تاريخية حفظتها الذاكرة اﻷدبية بحفظها شعر الغزل.
وفي الجانب الشرعي يرى أستاذ الدراسات العليا في جامعة الملك خالد (قسم الفقه) الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الجرعي أنّ شعر الغزل ليس إلا نوعا من الشعر الإنساني الذي يعبر عن مشاعر خلقها الله عز وجل في وجدان الإنسان، وطالما كان هذا الشعر مهذبا ومحترما، ومترفّعا عن سقط القول، ولم يتقصّد أذية أحد، ولا الغزل بامرأة معينة لا تحل له، فلا حرج فيه. ويضيف «الجرعي» أنّ كتب التفسير وشروحات الأحاديث والفقه بل حتى كتب الوعظ قد شحنت بمئات الأبيات من شعر الغزل على سبيل الاستشهاد بها في قضايا لغوية ونحوها.
وعن تضمين شعر الغزل في المناهج التربوية يقول «الجرعي»: هذه قضية تعود لأهل الاختصاص التربوي؛ إذ أن كل مرحلة تربويه لها مايناسبها من القيم والمبادىء التي يراد غرسها في الناشئة، وفي هذه القضية بالذات أرى أن المسألة ليست: هل يحل إيراد هذا اللون من الشعر أم لا يحل؟! بل هل يناسب هذه المرحلة أو لا يناسبها؟!.
ويستشهد «الجرعي» على ذلك بقوله: أذكر أن ابن حزم رحمه الله كان له رأيه فيما يتضمنه منهج التعليم من الشعر: فهو يرى أنّ الشعر الذي يتلقاه الناشئة ينبغي أن يكون قاصراً على الحكمة، دون الهجاء والتصعلك والغزل، وقريب من هذا الرأي - في الغزل- مال إليه ابن رشد الفيلسوف وابن مسكويه (عالم الأخلاق) كمسلك تربوي.
المواضيع المتشابهه 
الغزل في مقررات الأدب:غياب مُبرّر أم تغييب مُتَعمّد! 
العرض الشجري
