موضوع غريب قد يعتقد البعض أننى أهذى أو أمزح عندما أقول إن للجوع فوائدوالكثيرين يعتقدون أن فى الجوع الهلكة والموتإذا لنستعرض سوياً فوائد
الجوع لنقطع الشك باليقين
الفائدة الأولى
صفاء القلب وإيقاد القريحة وإنقاذ البصيرة، فإن الشبع يورث البلادةويعمي القلب ويكثر البخار في الدماغ شبه السكر حتى يحتوي على معانالفكر فيثقل
القلب بسببه عن الجريان في الأفكار وعن سرعة الإدراك،بل الصبي إذا أكثر الأكل بطل حفظه وفسد ذهنه وصار بطيءالفهم والإدراك.ويقال:مثل الجو
مثل الرعد، ومثل القناعة مثل السحاب، والحكمة كالمطر.
الفائدة الثانية
رقة القلب وصفاؤه الذي به يتهيأ لإدراك لذة المثابرة والتأثر بالذكر،فكم من ذكر يجري على اللسان مع حضور القلب ولكن القلبلا يتلذذ به ولا يتأثر حتى
كأن بينه وبينه حجاباً من قسوة القلب.
قال أبو سليمان الداراني:أحلى ما تكون إليَّ العبادة إذا التصق ظهري ببطني.
الفائدة الثالثة
الانكسار والذل وزوال البطر والفرح والأشر الذي هو مبدأ الطغيانوالغفلة عن الله تعالى، فلا تنكسر النفس ولا تذل بشيء كما تذل بالجوع،فعنده تسكن لربها وتخشع له وتقف على عجزها وذلها إذا ضعفت منتها وضاقت حيلتها بلقيمة طعام فاتتها، وأظلمت عليها الدنيا لشربة ماءتأخرت عنها. وما لم يشاهد الإنسان ذل نفسه وعجزه لا يرى عزة مولاه ولا قهره، وإنما سعادته في أن يكون دائماً مشاهداً نفسه بعين الذل والعجزومولاه بعين العز والقدرة والقهر
.
الفائدة الرابعة
أن لا تنسى بلاء الله وعذابه، ولا تنسى أهل البلاء، فإن الشبعان ينسىالجائع وينسى الجوع، والعبد الفطن لا يشاهد بلاء من غيره إلا يتذكر بلاء الآخرة، فيذكر من عطشه عطش الخلق في عرصات القيامة،ومن جوعه جوع أهل النار، حتى أنهم ليجوعون فيطعمون الضريعوالزقوم ويسقون الغساق والمهل، فلا ينبغي أن يغيب عن العبد عذاب الآخرة وآلامها، فإنه هو الذي يهيج الخوف،فمن لم يكن في ذلة ولا علة ولا قلة ولا بلاء نسي عذاب الآخرة ولم يتمثَّل في نفسه ولم يغلب على قلبه، فينبغي أن يكون العبد في مقاساة بلاء أو مشاهدة بلاء، وأولى ما يقاسيه من الجوع فإن فيه فوائد جمة سوى تذكر عذاب الآخرة.
الفائدة الخامسة
وهى من أكبر الفوائد:كسر شهوات المعاصي كلها والاستيلاء علىالنفس الأمارة بالسوء، فإن منشأ المعاصي كلها الشهوات والقوى،ومادة القوى والشهوات لا محالة الأطعمة، فتقليلها يضعف كلشهوة وقوة، وإنما السعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه، والشقاوة في أن تملكه نفسه،وكما أنك لا تملك الدابة الجموح إلا بضعف الجوع فإذا شبعت قويتوشردت وجمحت، فكذلك النفس.إن القوم لما شبعت بطونهم جمحت بهم نفوسهم إلى هذه الدنيا.وهذه ليست فائدة واحدة بل هي خزائن الفوائد.
ولذلك قيل:الجوع خزانة من خزائن الله تعالى، وأقل ما يندفع بالجوع:شهوة الفرج وشهوة الكلام،فإن الجائع لا يتحرك عليه شهوة فضول الكلام فيتخلص به من آفاتاللسان كالغيبة والفحش والكذب والنميمة وغيرها، فيمنعه الجوع من كل ذلك، وإذا شبع افتقر إلى فاكهة فيتفكه لا محالة بأعراض الناس، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.
وأما شهوة الفرج فلا تخفى غائلتها، والجوع يكفي شرها. وإذا شبع الرجل لم يملك فرجه، وإن منعته التقوى فلا يملك عينه،فالعين تزني، فإن ملك عينه بغض الطرف فلا يملك فكره، فيخطر له من الأفكار الرديئة وحديث النفس بأسباب الشهوة ما يتشوش به مناجاته، وربما عرض له ذلك في أثناء الصلاة.
الفائدة السادسة
دفع النوم ودوام السهر، فإن من شبع شرب كثيراً ومن كثر شربهكثر نومه،وفي كثرة النوم ضياع العمر وفوت التهجد وبلادة الطبعوقساوة القلب،والعمر أنفس الجواهر،وهو رأس مال العبد فيه يتجر، والنوم موت فتكثيره ينقص العمر، ثم فضيلة التهجد لا تخفىوفي النوم فواتها.ومهما غلب النوم فإن تهجد لم يجد حلاوة العبادة.فالنوم منبع الآفات، والشبع مجلبة له، والجوع مقطعة له.
الفائدة السابعة
تيسير المواظبة على العبادة فإن الأكل يمنع من كثرة العبادات لأنه يحتاج إلى زمان يشتغل فيه بالأكل، وربما يحتاج إلى زمانفي شراء الطعام وطبخه، ثم يحتاج إلى غسل اليد والخلال، ثم يكثر ترداده إلى بيت الماء لكثرة شربه. والأوقات المصروفةإلى هذا لو صرفها إلى الذكر والمناجاة وسائر العبادات لكثر ربحه.
قال السري:رأيت مع علي الجرجاني سويقاً يستف منه فقلت:ما حملك على هذا؟ قال:إني حسبت ما بين المضغ إلى الاستفافسبعين تسبيحة فما مضغت الخبز منذ أربعين سنة. فانظر كيف أشفق على وقته ولم يضيعه في المضغ. وكل نفس من العمر جوهرة نفيسة لا قيمة لها، فينبغي أن يستوفي منهخزانة باقية في الآخرة لا أخر لها بصرفه إلى ذكر الله وطاعته. ومن جملة ما يتعذر بكثرة الأكل الدوام على الطهارة وملازمة المسجد،فإنه يحتاج إلى الخروج لكثرة شرب الماء وإراقته. ومن جملته الصوم فإنه يتيسر لمن تعود الجوع، فالصوم ودوام الاعتكافودوام الطهارة وصرف أوقات شغله بالأكل وأسبابه إلى العبادة أرباح كثيرة،وإنما يستحقرها الغافلون الذين لم يعرفوا قدر الدين لكن رضوا بالحياة الدنياواطمأنوا بها:{ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ }
وقد أشار أبو سليمان الداراني إلى ست آفات من الشبع فقال:من شبع دخل عليه ست آفات:فقد حلاوة المناجاة، وتعذر حفظ الحكمة، وحرمان الشفقة على الخلق لأنه إذا شبع ظنّ أن الخلق كلهم شباع،وثقل العبادة، وزيادة الشهوات،وأن أول سائرالمؤمنين يدورون حول المساجد، والشباع يدورون حول المزابل.
الفائدة الثامنة
يستفيد من قلة الأكل صحة البدن ودفع الأمراض، فإن سببها كثرة الأكل وحصول فضله الأخلاط في المعدة والعروق. ثم المرض يمنع من العباداتويشوش القلب ويمنع من الذكر والفكر، وينغص العيش،ويحوج إلى الفصد والحجامة والدواء والطبيب، وكل ذلك يحتاج إلى مؤنونفقات لا يخلو الإنسان منها بعد التعب عن أنواع من المعاصي واقتحام الشهوات، وفي الجوع ما يمنع ذلك كله.
حكي أن الرشيد جمع أربعة أطباء:هندي، ورومي، وعراقي، وسوادي، وقال:ليصف كل واحد منكم الدواء الذي لا داء فيه،فقال الهندي:الدواء الذي لا داء فيه عندي هو الإهليلج الأسود، وقال العراقي:هو حب الرشاد الأبيض، وقال الرومي:هوعندي الماء الحار،وقال السوادي وكان أعلمهم:الإهليلج يعفص المعدة وهذا داء، وحب الرشاديزلق المعدة وهذا داء، والماء الحار يرخي المعدة وهذا داء، قالوا:فما عندك؟ فقال: الدواء الذي لا داء معه عندي أن لا تأكل الطعام حتى تشتهيه، وأن ترفع يدك عنه وأنت تشتهيه، فقالوا:صدقت.
الفائدة التاسعة
خفة المؤنة، فإن من تعود قلة الأكل كفاه من المال قدر يسير،والذي تعود الشبع صار بطنه غريماً ملازماً له أخذ بمخنقه في كل يوم،فيقول ماذا تأكل اليوم؟ فيحتاج إلى أن يدخل المداخل، فيكتسب من الحرام فيعصي أو من الحلال فيذل، وربما يحتاج إلى أن يمد أعين الطمع إلى الناسوهو غاية الذل والقماءة، والمؤمن خفيف المؤنة.
وقال بعض الحكماء:إني لأقضي عامة حوائجي بالترك فيكون ذلك أروح لقلبي.
وقال آخر:إذا أردت أن استقرض من غيري لشهوة أو زيادة استقرضت من نفسيفتركت الشهوة فهي خيرغريم لي.
وكان إبراهيم بن أدهم رحمه الله يسأل أصحابه عن سعر المأكولاتفيقولون إنها غالية، فيقول:أرخصوها بالترك.
الفائدة العاشرة
أن يتمكن من الإيثار والتصدق بما فضل من الأطعمة على اليتامى والمساكين،فيكون يوم القيامة في ظل صدقته.فما يأكله كان خزانته الكنيف،وما يتصدق به كان خزانته فضل الله تعالى، فليس للعبد من ماله إلا ما تصدقفأبقى أو أكل فأفنى أو لبس فأبلى. فالتصدق بفضلات الطعام أولى من التخمة والشبع.
وقال سهل رحمه الله الأكول مذموم في ثلاثة أحوال:إن كان من أهل العبادة فيكسل وإن كان مكتسباً فلا يسلم من الآفات، وإن كان ممن يدخل عليه شيء فلا ينصف الله تعالى من نفسه.