الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين و بعد .. نقدم لك ـ أيها القارىء العزيز ـ أنموذجا رائعا من سلفنا الصالح وكيف كانوا يعاتبون أنفسهم مع كثرة عبادتهم وزهدهم وورعهم وإخلاصهم في العمل لله سبحانه و تعالى . وهو أنموذج يقتدى به ليقول بعضنا لبعض ( عاتب نفسك) على تقصيرها وعلى ضآلة عملها , و اعقد العزم على الجد والاجتهاد في العمل و الدعوة . نسأل الله أن يرنا الحق حقا ويرزقنا إتباعه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه و سلم . قال يحيى بن معين , أنبأنا عبد الرحمن المسعودي , عن عون بن عبد الله بن عتبة , أنه كان يقول في بكائه وذكر خطيئته : ويحي , بأي شيء لم أعص ربي . ويحي ! إنما عصيته بنعمته عندي . ويحي ! من خطيئة ذهبت شهوتها وبقيت تبعتها , عندي كتاب كتبه كتاب لم يغيبوا عني . واسوأتاه ! , لم استحيهم ولم أراقب ولم أراقب ربي .
ويحي ! نسيت مالم ينسوا مني . ويحي ! غفلت ولم يغفلوا عني , لم استحيهم ولم أراقب . واسوأتاه ! ويحي ! حفظوا ماضيعت مني ويحي ! طاوعت نفسي وهي لم تطاوعني ويحي ! طاوعتها فيما يضرني ويضرها . ويحي ! ألا تطاوعني فيما ينفعها وينفعني , أريد إصلاحها وتريد أن تفسدني . ويحها! إني لأنصفها وما تنصفني , أدعوها لرشدها وتدعوني لتغويني . ويحها ! إنها لعدو لو أنزلته تلك المنزلة مني . ويحها ! تريد اليوم أن تردني وغدا تخاصمني . رب لا تسلطها على ذلك مني , رب إن نفسي لم ترحمني فارحمني , رب إني أعذرها ولا تعذرني , أنه إن يك خيرا اخذلها وتخذلني , و إن يك شرا أحبها وتحبني , رب فعافني منها و أعفها مني , حتى لا أظلمها ولا نظلمني , وأصلحني لها وأصلحها لي , فلا أهلكها ولا تهلكني , ولا تكلني إليها ولا تكلها إلي . ويحي ! كيف أنساه ولا ينساني . ويحي ! انه يقص أثرى فان فررت لقيتني , وان أقمت أدركني . ويحي ! عل عسى أن يكون قد أظلني فمساني ؟ وصبحني! أو طرقني فبغتني ؟ ويحيّ أزعم أن خطيئتي قد أقرحت قلبي , ولا يتجافى حنبي , ولا تدمع عيني ولا تسهر لي . ويحي ! كيف أنام على مثلها ليلي . ويحي! هل ينام على مثلها مثلي . ويحي! لقد خشيت أن لا يكون هذا الصدق مني ؟ بل ويلي ! إن لم يرحمني ربي . ويحي ! كيف لا تهون قوتي ولا تعطش هامتي , بل ويلي ! إن لم يرحمني ربي . ويحي! كيف لا يذهب ذكر خطيئتي كسلي , ولايبعثني إلا ما يذهبها عني . بل ويلي ! إن لم يرحمني ربي . ويحي ! كي لا تنكأ قرحتي ما تكسب يدي , ويح نفسي بل ويلي ! إن لم يرحمني ربي . ويحي! لا تنهاني الأولى من خطيئتي عن الآخرة , ولا تذكرني الآخرة من خطيئتي بسوء ما ركبت من الأولى , فويلي ثم ويلي ! إن لم يتم عفو ربي . ويحي! لقد كان لي فيما استوعبت من لساني وسمعي وقلبي وبصري اشتغال , فويل لي إن لم يرحمني ربي . ويحي ! إن حجبت يوم القيامة عن ربي لم يزكني ولم ينظر إلي ولم يكلمني , فأعوذ بنور وجه ربي من خطيئتي , وأعوذ به أن أعطى كتابي بشمالي أو من وراء ظهري , فيسود به وجهي , وتزرق به من العمى عيني . بل ويلي ! إن لم يرحمني ربي . ويحي ! بأي شيء أستقبل ربي ؟ اني أم بيدي أم بسمعي أم بقلبي أم ببصري . ففي كل هذا له الحجة والطلبة عندي , ويل لي إن لم يرحمني ربي , كيف لا يشغلني ذكر خطيئتي عما لا يعنيني ؟ ويحيك يا نفسي مالك لا تنسين مالا ينسى ؟ وقد اتيت مالا يؤتي , وكل ذلك عند ربك يحصى , كتاب لا يبيد ولا يبلى . ويحيك ! لا تخافين أن اجزي فيمن يجزى يوم تجزى كل نفس بما تسعى , وقد آثرت ما يفنى على ما يبقى . يا نفس ويحك ! ألا تستفيقين مما أنت فيه ؟ إن سقمت تندمين , وان صححت تأثمين , مالك إن افتقرت تحزنين , وان استغنيت تفتنين . مالك إن نشطت تزهدين , فلم إن دعيت تكسلين ؟ أراك ترغبين قبل أن تنصبي , لم لا تنصبين فيما ترغبين . يا نفس ويحك ! لم تخافين ؟ تقولين في الدنيا قول الزاهدين وتعملين فيها عمل الراغبين . ويحك ! لم تكرهين الموت ؟ لم لا تذعنين وتحبين الحياة , لم لا تصنعين . يا نفس ويحك ! أترجين أن ترضى ولا تراضين , وتجانبين تقترين ؟ أتريدين الحياة ؟ ولم تحذرين بتغير الزيادة , ولم تشكرين , تعظمين الرغبة حين تسألين , وتقصرين في الرغبة حين تعملين , تريدين الآخرة بغير عمل , وتؤخرين التوبة لطول الأمل. لا تكوني كمن يقال هو في القول مدل , ويستصعب عليه الفعل , بعض بني آدم إن سقم ندم , وان صح أمن , وان افتقر حزن , وان نشط زهد , وان رغب كسل , يرغب قبل أن ينصب , لا ينصب فيما يرغب , يقول قول الزاهد , ولا يعمل عمل الراغب , يكره الموت لم لا يدع , ويحب الحياة لما لا يصنع . إن سأل أكثر , وان انفق قتر , يرجو الحياة ولم يحذر , ويبغى الزيادة ولم يشكر , يبلغ الرغبة حين يسأل , ويقصر في الرغبة حين يعمل , يرجو الأجر بغير عمل . ويح لنا ما أغرنا . ويح لنا ما أغفلنا . ويح لنا ما أجهلنا . ويح لنا لأي شيء خلقنا ؟ للجنة أم للنار . ويح لنا أي خطر خطرنا . ويح لنا من أعمال قد أخطرتنا , ويح لنا مما يراد بنا . ويح لنا إن ختم على أفواهنا , وتكلمت أيدينا , وشهدت أرجلنا . ويح لنا حيين تفتش سرائرنا . ويح لنا حين تشهد أجسادنا . ويح لنا مما قصرنا , لا براءة لنا , ولا عذر عندنا . ويح لنا ما أطول أملنا . ويح لنا حيث نمضي إلى خالقنا . ويح لنا ولنا الويل الطويل ! إن لم يرحمنا ربنا , فارحمنا يا ربنا . رب ما أحكمك , وأمجدك , وأجودك , وأرأفك , وأرحمك , وأعلاك , وأقربك , وأقدرك , وأقهرك , وأوسعك , وأقضاك , وأبينك , وأنورك , وألطافك , وأخبرك , وأعلمك , وأشكرك , وأحلمك , وأحكمك , وأعطفك , و أكرمك . رب ما أرفع حجاك , وأكثر مدحك , رب ما أبين كتابك , وأشد عقابك , رب ما أكرم مآبك , وأحسن ثوابك , رب ما أجزل عطاءك , وأجل ثناءك , رب ما أحسن بلاءك , وأسبغ نعماءك , رب ما أعلى مكانك , وأعظم سلطانك , رب ما أمتن كيدك , وأغلب مكرك , رب ما أعز ملكك , وأنم أمرك , رب ما أعظم عرشك , وأشد بطشك , رب ما أوسع كرسيك , وأهدى نهديك , رب ما أوسع رحمتك , وأعرض جنتك , رب ما أعز نصرك , و أقرب فتحك , رب ما أعمر بلادك , وأكثر عبادك , رب ما أوسع رزقك , وأزيد شكرك , رب ما أسرع فرجك , وأحكم صنعك, رب ما ألطف خيرك , وأقوى أمرك , رب ما أنور عفوك , وأجل ذكرك , رب ما أعدل حكمك , و أصدق قولك , رب ما أوفي عهدك , وأنجز وعدك , رب ما أحضر نفعك , وأتقن صنعك . ويحي ؟ كيف أغل ولا يغل عني , أم كيف تهنئني معيشتي واليوم الثقيل ورائي , أم كي لا يطول خزني ولا أدري ما يفعل بي ؟ أم كيف تهنئني الحياة ولا أدري ما أجلي ؟ أم كيف تعظم فيها رغبتي والقليل فيها يكفيني , أم كيف يشتد حبي لدار ليست بداري ؟ أم كيف أجمع لها وفي غيرها قراري ؟ أم كيف يشتد عليها حرصي ولا ينفعني ما تركت فيها بعدي , أم كيف أوثرها وقد أضرت بمن آثرها قبلي , أم كيف لا أبادر بعملي قبل أن يغلق باب توبتي , أم كيف يشتد إعجابي بما يزايلني وينقطع عني , أم كيف أغفل عن أمر حسابي وقد أظلني وأقترب مني , أم كيف اجعل شغلي بما قد تكفل به لي , أم كيف أعاود ذنوبي وأنا معروض علي عملي , أم كيف لا أعمل بطاعة ربي وفيها النجاة مما أحذر على نفسي , أم كيف تقر عيني مع ذكر ما سلف مني , أم كيف أعرض نفسي لما لا يقوى له هوائي , أم كيف لا يشتد هولي منه جزعي , أم كيف تطيب نفسي مع ذكر ما هو أمامي , أم كيف يطول أملي والموت أثري , أم كيف لا أراقب ربي وقد أحسن طلبي . ويحي ! فهل ضرت غفلتي أحدا سواي , أم هل يعمل لي غيري إن ضيعت حظي , أم هل يكون عملي إلا لنفسي , فبم ادخر عن نفسي ما يكون نفعه لي . ويحي ! كأنه قد تصرم اجلي ثم أعاد ربي خلقي كما بدأني , ثم أوقفني وسألني وسأل عني وهو أعلم بي ثم أشهدت الأمر الذي أذهلني عن أحبابي وأهلي , وشغلت بنفسي عن غيري , وبدلت السماوات والأرض ؛ وسيرت الجبال وليس لها مثل خطيئتي , وجمع الشمس والقمر وليس عليهما مثل حسابي ؛ وانكدرت النجوم وليست تطلب بما عندي , وحشرت الوحوش ولم تعمل بمثل عملي , وشاب الوليد وهو أقل ذنبا مني . ويحي ! ما أشد حالي وأعظم خطري , فاغفر لي واجعل طاعتك همي , وقو عليها جسدي , وسخ نفسي عن الدنيا واشغلني فيما يعنيني , وبارك لي في قواها حتى ينقضي مني حالي , وامتن علي وارحمني حين تعيد بعد اللقاء خلقي , ومن سوء الحساب فعافني يوم تبعثني فتحاسبني , ولا تعرض عني يوم تعرضني بما سلف من ظلمي وجرمي , آمني يوم الفزع الأكبر يوم لا تهمني إلا نفسي , وارزقني نفع عملي يوم لا ينفعني عمل غيري . الهي أنت الذي خلقتني , وفي الرحم صورتني , ومن أصلاب المشركين نقلتني , قرنا فقرنا حتى أخرجتني في الأمة المرحومة , الهي فارحمني الهي فكما مننت علي بالإسلام فامنن غلي بطاعتك , وبترك معاصيك أبدا ما أبقيتني ولا تفضحني بسرائري ؛ ولا تخذلني بكثرة فضائحي . سبحانك خالقي أنا الذي لم أزل لك عاصيا فمن اجل خطيئتي لا تقر عيني , وهلكت إن لم تعف عني , سبحانك خالقي بأي وجه ألقاك ؟ وبأي قدم أقف بين يديك ؟ وبأي لسان اناطقك ؟وبأي عين أنظر أليك ؟ وأنت قد علمت سرائر أمري , وكيف اعتذر إليك إذا ختمت على لساني , ونطقت جوارحي بكل الذي قد كان مني . سبحانك خالقي فأنا تائب إليك , فاقبل توبتي , واستجب دعائي وارجم شبابي , وأقلني عثرتي , وارحم طول عبرتي , ولا تفضحني بالذي قد كان مني . سبحانك خالقي أنت غياث المستغيثين , وقرة أعين العابدين , وحبيب قلوب الزاهدين , فإليك مستغاثي ومنقطعي , فارحم شبابي , واقبل توبتي , واستجب دعوتي , ولا تخذلني بالمعاصي التي كانت مني . الهي علمتني كتابك الذي أنزلته على رسولك محمد صلى الله عليه وسلم . ثم وقعت على معاصيك وأنت تراني , فمن أشقى مني إذا عصيتك وأنت تراني , وفي كتابك المنزل قد نهيتني , الهي أنا إذا ذكرت ذنوبي ومعاصيي لم تقر عيني للذي كان مني , فأنا تائب إليك فأقبل ذلك مني , ولا تجعلني لنار جهنم وقودا بعد توحيدي , وإيماني بك . فاغفر لي ولوالدي ولجميع المسلمين برحمتك آمين يا رب العالمين . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . المصدر (( حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني )) .