«التاريخ يعيد نفسه، أم أن البشر يعيدون التاريخ»، أم أن البشرية مجبولة على اتباع طرق تؤدي بها كل مرة في نهاية المطاف إلى كارثة ودمار شامل؟
أسئلة تكاد تتكرر في كل موقف قد يتشابه مع حدث تاريخي سابق.
لا تنفك البشرية أن تخرج من فترة دمار شامل فتدخل في أخرى، ويبدو أننا على وشك الدخول في إحدى تلك الفترات، هكذا يقول «توباياس ستون» بعد محاولته استشراف مستقبل العالم اعتمادًا على التاريخ. قد تثبت صحة رأيه أو خطأه، ففي النهاية هو يكتب ليمنع كارثة، أو ربما مثله مثل الكثيرين يكتب ليقال عنه مستقبلاً أنه أحد الذين تنبأوا بالكارثة.
ينطلق «توباياس» من خلفية تاريخية بسبب دراسته الأكاديمية للتاريخ والتي ارتبطت إلى حدٍ ما بدراسة علم الآثار والأنثربولوجيا. يلخص «توباياس» وجهة نظره قائلًا إن شعوب العالم تقتصر خبراتهم المتناقلة بالتاريخ على 50 أو 100 عام، وغالبًا ما تكون خبرات نَفَلَها لهم الآباء والأجداد. لكن، ليصل الفرد إلى خبرات أبعد من ذلك، عليه أن يقرأ في التاريخ، ويدرسه ليتعلم منه كيف يفك شباك حروب الدعاية الحتمية في كل قصص التاريخ، فالأخذ برواية واحدة للتاريخ لا يصل إلى فهم حقيقي للسياق الأوسع للأحداث.
الدمار هو عادة البشر
إذا استعرضنا تلك القائمة التي تشمل جميع الحروب التي مرت بها البشرية، ربما نستنتج أن الحروب هي باختصار «عرف» البشر، حتى في الأوقات التي قد تخلو من الحروب، نجد كوارث طبيعية تحل بالأمم مخلفةً نفس أثر الحروب، فتحصد مئات الآلاف بل الملايين من الأرواح، ولا أدل على ذلك من الطاعون الذي فتك بأوروبا. شبه «جيوفاني بوكاتشو» في افتتاحية روايته ديكاميرون – التي تعرض قصة الطاعون في سلسلة مكونة من 100 قصة – وقوع مدينة فلورنس في قبضة الطاعون، بالدمار الذي خلفته معركة «السوم» و«الهولوكوست» و«القنبلة النووية على هيروشيما».
ويضيف أن أيًا منا لا يمكنه مجرد تخيل كم المعاناة التي مر بها من عاصروا تلك الأحداث، ربما هم شعروا أنها نهاية العالم، وأنه لا حياة بعد الطاعون، لكن أحد الحقائق التي خلفتها كل تلك الكوارث الطبيعية والبشرية هي أن «المرونة» صفة متأصلة في الإنسانية. فهي قادرة على النهوض مجددًا والاستمرار بعد كل كارثة مدمرة تحل بها. وبعد قرون، ها نحن نخرج ببعض الآثار الإيجابية التي خلفتها كل تلك الكوارث، فعلى سبيل المثال، ما بدا وقت انتشار الطاعون أنه نهاية العالم، يرى المؤرخون الآن أنه كارثة طبيعية استهدفت بانتقائية أرواح مئات الآلاف من ضعاف البنية والمرضى، ففي نهاية المطاف خلَّص الطاعون البشرية من أمثال هؤلاء في فترة زمنية وجيزة. ونتج عن ذلك تغير في البنية الاجتماعية في أوروبا، فذلك التجريف المأساوي للسكان تسبب في نقص العمالة، مما انعكس على زيادة المرتبات وانخفاض الأسعار؛ وبالتالي ارتفاع مستوى المعيشة.على سبيل المثال، تحسنت نوعيات غذائهم.
فعلى المستوى العالمي، على الرغم من أن من عاصروا الطاعون والحربين العالميتين والمجاعات السوفيتية والهولوكوست بالتأكيد شعروا أنها نهاية العالم، وكذلك انهيار الإمبراطورية الرومانية ومحاكم التفتيش وحرب الـ30 عاما والحرب الأهلية الإنجليزية، فإن الحقيقة التي تؤكدها كل تلك الاحداث هي أن البشرية لها القدرة على تخطي تلك الكوارث.
أما على المستوى المحلي، عندما تتصاعد وتيرة الأحداث، وتخرج عن نطاق السيطرة فيصعب وقفها، فتحدث دمارًا شاملاً، يصعب على الناس إدراك ما قد يصل إليه المؤرخون من فهم الصورة الأكبر وعلاقة الأحداث ببعضها، وكيف يؤدي حادث صغير إلى سلسلة أحداث متتالية تزداد في شدتها. على سبيل المثال قد يصعق البعض لدى معرفة أن حرب الـ«سوم» كانت نتيجة نهائية لحادث اغتيال دوق نمساوي في البوسنة. وعلى الأرجح لم يدرك أي ممن عاصروا تلك الحرب التي حصدت أرواح 17 مليون شخص أنها اندلعت بسبب اغتيال شخص ذي مرتبة «ضئيلة» في أحد العائلات الحاكمة في أوروبا.
يؤكد «توباياس» أن ما حدث في حالة الطاعون أو حرب الـ«سومو» لم يكن سوى نمطًا اعتادت البشرية عليه. لكن مجددًا لأن خبراتنا التاريخية لا تتعدي المائة عام، فنحن لا ندرك ذلك.
لا تدرك الجماهير ولا زعمائهم الشعبويون في البداية مآلات أفعالهم الكارثية كما ندركها نحن بعد دراسة التاريخ، بل يرون أنهم على حق، فتنطلق الجماهير الغاضبة في التهليل لأولئك الزعماء الشعبويين الذين بدورهم يتغذون على عاطفة وغضب الجماهير. كما أنهم يحقرون كل رأي منتقد لتلك الموجة من التأييد والانقياد. يقول «توباياس» إن مثل ذلك السلوك يحدث لأن الجماهير وقادتهم الشعبويين ينظرون لحاضرهم فقط متجاهلين الماضي والمستقبل، إضافة إلى أن تركيزهم ينصب على واقعهم المحلي دون محاولة إدراك كيف تترابط الأحداث العالمية، فضلاً عن أن السواد الأعظم منهم لا يقرأون ولا يسمعون للآراء المخالفة لهم.