وأي تعفف عن الشأن العام وحياد من النقاش العمومي واللا انتماء لسياسة بعد اليوم والصفحات الشخصية للأفراد أشبه ما تكون بقنوات إعلامية يمكنه عبرها تمرير الأخبار والمواقف والإعلانات والنداءات والبيانات والإدانات والتضامن مع هذه القضية أو تلك الواقعة أو ذاك الحدث في أي نقطة يقع فيها من أرجاء المعمورة. إنها حقا؛ وباختصار، صحيفة شخصية لفرد هو مالكها ومدير تحريرها ومحرّرها وناشرها بلا وساطة ولا رقابة وبسرعة قياسية في اتجاه الآخرين.
أجيال خارج السيطرة
لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي مجرد أدوات محايدة لتسهيل عملية التواصل، إنما تحوي توجيهات أخلاقية مستبطنة، وتصورا معينا عن الذات وعلاقتها بالعالم، وانعكاسات سياسية واجتماعية مهمة، وحاملة لمواقف ظاهرة أو باطنة.
فالـ "فيسبوك" على سبيل المثال تحوّل إلى أداة إعلامية رهيبة في يد الجماهير، تنقل الخبر طازجا من مصادره الحية، من دون أن يخضع للأدلجة والتوجيه التي تخضع لها عادة الأخبار عبر وسائل الإعلام التقليدية المعروفة، بل يصل الخبر خاما من المنجم بترابه وشوائبه فلم يتعرض بعد لأي تحليل أو توجيه، ليسقط مباشرة في يد الجماهير التي تبقى لها صلاحية الفهم والتحليل والتأويل عندئذ.
لقد أصبح الفرد المعاصر خارج السيطرة بلا قيود في سفر افتراضي دائم من خلال هذه الأدوات المرافقة له في الجيب من خلال الهاتف أو الحاسوب في المكتب أو المنزل أو المدرسة أو الجامعة، إنه في تواصل دائم ومستمر وخارج الأطر الكلاسيكية والروابط التقليدية. كل ذلك جعل إنسان اليوم أكثر تفاعلا وحيوية بالتعبير والقبول والرفض والاحتجاج، وقول نعم ولا.
يظل أحد أهم الدروس الناجحة في هذا العالم ذلك الذي أتاح "الربيع العربي" فرصة لاختباره ويتعلق بجدلية المواطن الرقمي، ففي أحداثه خرج هذا المواطن من الافتراضي إلى الواقعي، ومن الواقعي رجع إلى الافتراضي مجددا، ليثبت بهذا الذهاب والإياب والاحتكاك بآراء الآخرين وثقافاتهم ولغاتهم أنه قادر على الفعل والمشاركة، ويخرج من السلبية والاستسلام للواقع والتحكم والخضوع والهيمنة.
نماذج من ورق
تبقى السرعة سمة لا تفارق هذا العالم الرقمي الجديد في كل جوانبه، فحتى النماذج والرموز التي يصنعها في زمن قياسي لا يلبث نجمها أن يخفُت بعد حين؛ بمجرد نزول أسهمها في بورصة المشاركات وإعادة المشاركات والإعجابات والتعاليق.. وما إلى ذلك من العُملات المعتمدة لقياس نجومية هذا الحساب أو تلك الصفحة.
ما يجعل هذا البطل المدمن لهذه العوالم في صراع دائم ولحظي مع الذات ومع الآخرين، بغية التميّز والاستثناء لجلب الأنظار ولفت الانتباه. هذا وقد يُقْدم على أفعال وممارسات جنونية لا تخطر للإنسان العادي على بال، بهدف حصد ما يؤهله للبقاء ضمن لائحة "زعماء" السوشيال ميديا ممن يشار إليه بالبنان.
تفيد ملاحظة هؤلاء النجوم الجدد باشتراكهم في عديد من الخصائص التي تكاد تكون المدخل نحو البطولة في وسائل التواصل هذه، تأتي في مقدمة تلكم السمات الحرص على ثقافة الاستعراض وانتهاج مبدأ السطحية والخواء الفكري والنزوع نحو الفهلوة والسعي وراء ما يطلبه الجمهور.. وما إلى ذلك من العناصر التي تعِد معتنقها بالبطولة السريعة في عالم "الإصبع الصغيرة" على حد تعبير ميشال دي سار في كتابه الأخير بذات العنوان.
قد تكون صناعة النجومية المرضية والإدمان الإلكتروني بعض المظاهر المتعيِّنة حاليا بين ظهرانينا، أو على الأقل التي استطاع الباحثون والمهتمون بهذه الظاهرة اكتشافها، في ظل فورة الاحتفال بثمار ونتائج هذه الثورة الجديدة المترامية الأطراف باختراق كل المجتمعات والثقافات والشعوب تدريجيا.
أكيد أننا قد نخرج عن الإجماع إذا ما قلنا إن نشوة الاكتشاف ودهشة اللحظة تبعداننا عن التفكير في مآلات هذه الثورة التي لا تعدو أن تكون مصيرا بعد حين على شاكلة مصير المذياع أو التلفاز أو اللاقط الهوائي قبلها.