سنن الله تعالى في خلقه ثابتة؛ لا تتغيَّر، ولا تُحابي أحدًا، ولا تتخلَّف عند وجود أسبابها.
وإنَّ من سُنن الله الماضية أن يُسَلِّط عقوباته على المجتمعات التي تفرِّط في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (لُعِنَ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ بَني إِسْرائيلَ عَلى لسان دَاودَ وعيسى بن مَرْيَمَ ذلكَ بِما عَصَوْا وكَانُوا يَعْتَدونَ.كَانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنْكَر فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلونَ)(المائدة: 78- 79.).
وتلك العقوبات والآثار السيئةُ كثيرةٌ و متنوِّعة، لكن من أظهرها:
1- كثرة الخَبَث:
روى البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش رضي الله عنها: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم استيقظَ يومًا من نومه فزِعًا وهو يقول: "لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقترب، فُتحَ اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا (وحلَّق بين أصبعيه السبابة والإبهام)" . فقالت له زينب رضي الله عنها: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم؛ إذا كَثُرَ الخَبَث".
إنَّ المنكَر إذا أُعلن في مجتمع، ولم يجد مَن يقف في وجهه؛ فإن سوقـه تقوم، وعوده يشتد، وسلطته تَظْهَر، ورواقَه يمتد، ويصبح دليلاً على تمكُّن أهل المنكر وقوَّتـهم، وذريعةً لاقتداء الناس بهم، وتقليدهم إيَّاهم، وما أحرصَ أهلَ المنكر على ذلك!
ولهذا توعَّدهم الله جلَّ وعلا، فقال: (إنَّ الَّذينَ يُحِبُّونَ أنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ في الَّذينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ في الدُّنْيا والآخِرَة)(النور: 19.).
2- إن كثرة الخبث تؤذن بالعذاب الإلهي العام والهلاك الشامل:
دلَّ على ذلك حديثُ زينب المذكور آنفًا، الذي نُقِل عن جماعة من الصحابة، مما يدلُّ على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر.
وقد قصَّ الله عزَّ وجلَّ علينا خبر بني إسرائيل حين نهاهم أن يَعْدوا في السَّبت، ولنا في تلك القصة عبرة: (وَإذْ قَالَتْ أُمَّةٌ منْهُمْ لمَ تَعظُونَ قَومًا اللهُ مُهْلكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَديدًا قَالُوا مَعْذرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا به أَنجَيْنَا الَّذينَ يَنْهَوْنَ عَن السُّوء وَأَخَذْنَا الَّذينَ ظَلَمُوا بعَذَاب بَئيس بمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ.فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قرَدَةً خَاسئينَ) (الأعراف: 164- 166.).
إذن؛ فقد أنجى الله تعالى الذين ينهَوْن عن السوء فقط، وأما البقيَّة؛ فقد عذَّبهم كلَّهم.
هذه سنَّتُه سبحانه في كل أمَّة يحقُّ عليها العذاب.
فإن لم يكن في الأمة من ينهى عن السوء والفساد؛ فلا نجاة لأحد منها، (فَلَوْلا كَانَ مِنَ القُرُون مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّة يَنْهَوْنَ عَن الفَسَاد في الأَرْض إلاَّ قَليلاً مِمَّنْ أنْجَيْنَا مِنْهُمْ واتَّبَعَ الَّذينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فيه...)(هود:116.).
وفي حديث جرير: "ما من رجل يكون في قوم، يعملُ فيهم بالمعاصي، يقدِرون على أن يغيِّروا عليه، فلا يغيِّروا؛ إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا".
3- الاختلاف والتناحر:
إنَّ من أنكى العقوبات التي تنـزل بالمجتمع المهمِل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن يتحوَّل المجتمع إلى فرق وشيعٍ تتنازعُها الأهواء، فيقع الاختلاف والتناحُر:
(قُلْ هُوَ القَادرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا منْ فَوْقكُمْ أَوْ منْ تَحْت أَرْجُلكُمْ أَوْ يَلْبسَكُمْ شيَعًا وَيُذيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْض) (الأنعام: 65.).
وذلك التناحر يجعل المجتمع عرضة للانهيار والانهزام أمام العدو الخارجي المتربِّص.
ولا يحمي المجتمع من التفرُّق والاختلاف؛ إلا شريعة الله؛ لأنها تجمعُ الناس، وتحكمُ الأهواء، أما إذا ابتعد الناس عن شريعة الله تعالى؛ أصبح كلُّ امرئ يتَّبع هواه، وأهواء الناس لا يضبطها ضابط.
إنَّ مما يدلُّ على ارتباط التفرُّق والتَّناحُر بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أنَّ الله عزَّ وجلَّ قال: (وَلْتَكُنْ منْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْر وَيَأمُرُونَ بالمَعْرُوف وَيَنْهَوْنَ عَن المُنْكَر وَأُولَئكَ هُمُ المُفْلحُونَ)(آل عمران: 104.)، ثم قال بعد ذلك مباشرة: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا منْ بَعْد مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ) (آل عمران: 105.).
4- تسليط الأعداء:
فإن الله جلَّ وعلا قد يبتلي المجتمع التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن يسلِّط عليهم عدوًّا خارجيًّا، فيؤذيهم، ويستبيح بيضَتهم، وقد يأخذ بعض ما في أيديهم، وقد يتحكَّم في رقابهم وأموالهم.
5- عدم إجابة الدُّعاء:
الإنسان يلجأ إلى الله وحده عندما يمسُّه الضرُّ، ويدعوه سبحانه أن يكشف عنه السوء، حتى المشرك يفعل ذلك.
يقول سبحانه وتعالى: (ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإليْه تَجْأَرُونَ)(النحل:53.)، (وَإذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ في البَحْر ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلاَّ إيَّاهُ)(الإسراء: 67.)
والمسلمون التاركون لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ عندما ينـزل بهم العقاب؛ يتَّجهون إلى الله عزَّ وجلَّ؛ يدعونه، ولكنَّه لا يستجيب لهم؛ كما جاء في حديث حُذيفة الذي سبق ذكرُه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "والَّذي نفسي بيده؛ لتأمُرُنَّ بالمعروف، ولَتَنْهَوُنَّ عن المُنْكَرِ، أو ليبعثنَّ الله عليكم عقابًا منه، ثم تدعونَه، فلا يُستجابُ لكم".
6- الأزَمات الاقتصاديَّة:
قد تحلُّ الأزمات الاقتصاديَّة بالمجتمع المفرِّط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتتلاطَمُ به أمواج الفقر والضَّوائق، ويذوق الويلات من الحرمان.
7- ترك الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر يوجب الوقوع في الشهوات والإغراق فيها:
وهذا من شأنه أن يجعل الناس مرتبطين بالدُّنيا، أصحاب نفوس ضعيفة، غير جادِّين.
8- الإهمال في أخذ العدَّة:
سواء كانت عدَّة معنويَّة بقوة القلوب وشجاعتها، أو عدَّة ماديَّة محسوسة تجهَّز لمقاومة الأعداء؛ فإن الاستعداد لا يتقنُه ولا يلتفتُ إليه إلا أصحاب الهمم، المعرِضون عن السَّفاسف، أما صرعى الشَّهوات؛ فليسوا أهلاً لذلك؛ بل إنَّ مجرَّد الكلام عن الحرب يرعِبُهم؛ فضلاً عن خوض المعارك، وركوب الأهوال.
9- هناك عقوبة جدّ خطيرة، وهي أن الأمة بدأ مسارها في عدد من البلاد الإِسلامية يتغيَّر:
ذلك أن المنافقين المفسِدين لم يكتفوا بإشاعة المنكَرات؛ بل مضوْا يخطِّطون لسلخ الأمة عن دينها جملة، حتى تتحوَّل إلى أمة عِلمانيَّة لا دين لها، تقبلُ أن تُحكَم بأيِّ شريعة، وأن يشيع فيها أيُّ انحراف فكريٍّ أو خلقيٍّ.
وهذا التحوُّل أخطر من سيطرة الكافرين والمنافقين عسكريًّا على البلاد الإسلامية.