الحمد لله الواحد القهار العزيز الغفار مقدر الأقدار ومصرف الأمور على ما يشاء ويختار ومكور الليل على النهار. الواحد الأحد الفرد الصمد العليم الحكيم الذي أيقظ من خلقه من اصطفاه فأدخله في جملة الأخيار ووفق من اختار من عبيده فجعله من الأبرار. وبصر من أحبه من خلقه للحقائق فزهدوا في هذه الدار فاجتهدوا في مرضاته والتأهب لدار القرار.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: التوحيد أول دعوة الرسل وأول منازل الطريق وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله تعالى، قال تعالى ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59] وقال هود لقومه ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59] وقال صالح لقومه ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59] وقال شعيب لقومه ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59] وقال تعالى ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36] فالتوحيد مفتاح دعوة الرسل ولهذا قال النبي صلى اله عليه وسلم لرسوله معاذ ابن جبل - رضي الله عنه - وقد بعثه إلى اليمن ((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَادْعُهُمِ الَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حِجَابٌ )) والحديث رواه أحمد في مسنده والترمذي وأبو داود والنسائي في سننهم.
عباد الله ما قامت السماوات والأرض ولا صحت السنة والفرض ولا نجا أحد يوم العرض إلا بلا إله إلا الله ولا جردت سيوف الجهاد، ولا أرسلت الرسل إلى العباد، إلا ليعلموهم العمل بلا إله إلا الله. إنها أعظم نعمة أنعم الله بها - عز وجل - على عباده؛ حيث هداهم إليها؛ ولهذا ذكرها في سورة النحل، التي هي سورة النِّعم، فقدمها على كل نعمة فقال: ﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ﴾ [النحل: 2].
وهي النجاة: كما في قول مؤمن آل فرعون ﴿ وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ﴾ [غافر: 41]. والنجاة هي لا إله إلا الله، ولا تكون النجاة إلا بها، قال الرازي في تفسيره: (يَعْنِي أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ الَّذِي يُوجِبُ النَّجَاةَ وَتَدْعُونَنِي إِلَى الْكُفْرِ الَّذِي يُوجِبُ النَّارَ)[7]. وهي كلمة الاستقامة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾ [فصلت: 30].
قال ابن عيينة - رحمه الله - ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أفضل من أن عرَّفَهُ لا إله إلا الله، وإن لاَ إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا ولأجلها أعدت دار الثواب، ودار العقاب ولأجلها أمرت الرسل بالجهاد.
كلمة التوحيد أفضل قول قاله الأنبياء، روى الإمام مالك في موطئه بسنده عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ، أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ)).
واعلم أيضا أن صاحب التوحيد الخالص هو أسعد الناس بشفاعة النبي – صلى الله عليه وسلم -، روى البخاري وغيره من طريق أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (( قلت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ )) رواه البخاري وأحمد وغيرهما.
كذلك التوحيد هو السبب الأعظم لتفريج الكُرُبات في الدنيا وفي الآخرة: قال جل وعلا ﴿ إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ﴾ [الأنبياء:101 - 103]الآية، هؤلاء الذين سبقت لهم من الله الحسنى، من هم؟ هم أهل التوحيد؛ أهل الإيمان بالله الحق، بتوحيد الله جل وعلا، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وعمل صالحا، هؤلاء هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى، حالتهم بالآخرة لا يحزنهم الفزع الأكبر. وأما في الدنيا ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل:97]، فلهم الحياة الطيبة وتفريج الكربات في الدنيا وفي الآخرة.
وروى ابن ماجه في سننه بسنده عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ: ((مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ تَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، يَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى قَلْبِ مُوقِنٍ، إِلاَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا)). أهل (لا إله إلا الله) آمنون في قبورهم، روى الطبراني في الأوسط عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَيْسَ عَلَى أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْشَةٌ فِي قُبُورِهِمْ، وَلَا مَنْشَرِهِمْ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهُمْ يَنْفُضُونَ التُّرَابَ عَنْ رُءُوسِهِمْ، وَيَقُولُونَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)).
وإليكم هذه الصورة التي نقلها لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ أخبرنا برجل من امته تنقذه كلمة التوحيد من بحر من الذنوب، روى ابن ماجه في سننه بسنده عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (( يُصَاحُ بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ، فَيُنْشَرُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: هَلْ تُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ فَيَقُولُ: لَا، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَظَلَمَتْكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا، ثُمَّ يَقُولُ: أَلَكَ عُذْرٌ، أَلَكَ حَسَنَةٌ؟ فَيُهَابُ الرَّجُلُ، فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَاتٍ، وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَتُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ، مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ، وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَة)) وعند الدعاء للطبراني تفسير لمضمون البطاقة وفيه (فَيُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ).
وروى أبو داود في سننه بسنده عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ)).
تذكير مهم: كلمة التوحيد لها شروط لينال المسلم فضلها وخيرها، وهي: • العلم بمعناها نفيًا وإثباتًا • اليقين: وهو كمال العلم بها المنافي للشك والريب. • الإخلاص المنافي للشرك. • الصدق المنافي للكذب المانع من النفاق. • المحبة لهذه الكلمة ولما دلت عليه والسرور بذلك. • الانقياد بحقوقها. • القبول المنافي للرد.
وأيضا عدم وجود ناقض من نواقض الإسلام.
الخاتمة:
فعلينا إخوتي وإخواتي أن نراجع أنفسنا، فهل حققنا التوحيد حقا؟ هل حقق التوحيد من استغاث بغير الله؟ هل حقق التوحيد من دعا غير الله؟ هل حقق التوحيد من كان يرائي بأعماله؟ هل حقق التوحيد من تعلق بالعبيد وترك الغني الحميد؟ هل حقق التوحيد من تحاكم إلى غير شرع الله؟ هل حقق التوحيد من ذهب إلى السحرة والكهنة والمشعوذين؟
أيها المسلم تذكر أن معنى (لا إله إلا الله) أنه لا معبود ولا مقصود ولا مرهوب ولا مرغوب بحق إلا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فوجب على المسلم أن يصرف عبادته إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وأن يتوجه إليه، وأن يدعوه رغبة ورهبة، وألا يخاف إلا منه، ولا ينذر ولا يذبح إلا له، ولا يتقرب إلى غيره سُبحَانَهُ وَتَعَالى بما يخدش لا إله إلا الله محمد رسول الله.
معناها: أن الحياة تصرفها لا إله إلا الله، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].
الموظف يعمل بلا إله إلا الله فيخلص في وظيفته، والتاجر يعمل بلا إله إلا الله فيتحرى الحلال، والإعلامي يعمل بلا إله إلا الله فلا يقول إلا الصدق، ولا يجعل من نفسه بوقا للكذب، والمسؤول يعمل بلا إله إلا الله فيخلص ويؤدي عمله بكل إخلاص وصدق، وهكذا كل مسلم في هذه الدنيا عليه إذا أراد الفلاح والنجاح فليعمل بلا إله إلا الله.
فمعنى لا إله إلا الله في حياة المسلم أن يكون معتقده، وأخلاقه، وعبادته وسلوكه، واتجاهاته وآماله كلها لوجه الله عز وجل، روى البغوي في شرح السنة عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ)).
نسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعلنا من عباده الموحدين المخلصين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.