قالَ الإمامُ مُحمَّد عبد الرَّحمـٰن بن عبد الرَّحيم المباركفوري (ت: 1353هـ) ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ ـ في «تحفة الأحوذي» (6 / 438، 439)": قَوْله: (بَادِرُوا) أيْ: سابقُوا وسارعُوا (بِالأَعْمَالِ) أيْ: بالاِشتغال بالأعمال الصَّالحة (فِتَنًا) أيْ: وقُوع فتن. (كَقِطَعِ الّليْلِ المُظْلِمِ) بكسر القاف، وفتح الطَّاء، جمع قطعة، وهي طائفة. والمعنى: كقِطَع مِن اللَّيل المظلم لفرط سوادها وظُلمتها وعدم تبين الصَّلاح والفساد فيها.
وحاصل المعنى: تعجَّلوا بالأعمال الصَّالحة قبل مجيء الفتن المُظلمة مِنَ القتل والنَّهب والاختلاف بين المسلمين في أمر الدُّنيا والدِّين، فإنَّكم لا تُطيقون الأعمال على وجه الكمال فيها.
والمرادُ مِنَ التَّشبيه: بيان حال الفتن مِنْ حيث أنَّهُ بشيع فظيع، ولا يعرف سببها ولا طريق الخلاص منها؛ فالمبادرة المسارعة بإدراك الشَّيء قبل فواته أو بدفعه قبل وقوعه.
(يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا) أيْ: موصوفًا بأصل الإيمان أو بكماله. (ويُمْسِي كَافِرًا) أيْ: حقيقةً أو كافرًا للنَّعمة أو مشابهًا للكفرة أو عاملاً عمل الكافر.
وقيلَ المعنى: يصبح محرَّمًا ما حرَّمه الله، ويُمسي مستحلًّا إيَّاه وبالعكس.
قلتُ: وهذا المعنى الأخير اِخْتاره الحسن البَصْري، وقَدْ ذكرهُ التِّرمذيُّ في هذا الباب. (يَبِيعُ أَحَدُهُمْ دِينَهُ) أيْ: بتركه. (بِعَرَضٍ) بفتحتين، أيْ: بأخذ متاع دنيء وثمن رديء. قالَ الطَّيِّبيُّ رَحِمَهُ اللهُ: قوله: (يُصبح) اِسْتئناف بيان لحال المشبه، وهو قوله: (فتنًا)، وقَوْله: (يبيع إلخ) بيان للبيان.
وقالَ المظهر: فيه وجُوه:
° أحدها: أنْ يكون بين طائفتيْن مِنَ المُسلمين قتال لمجرد العصبيَّة والغضب، فيستحلُّون الدَّم والمال.
° وثانيها: أنْ يكون وُلاة المسلمين ظَلَمة، فيُريقون دماء المُسلمين ويأخذون أموالهم بغير حقٍّ، ويزنون ويشربون الخمر، فيعتقد بعض النَّاس أنَّهم على الحقّ ويُفتيهم بعض عُلماء السُّوء، على جواز ما يفعلون مِنَ المحرَّمات، من إراقة الدِّماء وأخذ الأموال ونحوها.
° وثالثها: ما يجري بين النَّاس ممَّا يُخالف الشَّرع في المعاملات، والمبايعات، وغيرها فيستحلُّونها.
([«تحفة الأحوذي شرح "جامع التِّرمذيَّ"» / (6 / 438، 439)])
¥°¥°¥
وسُئِلَ الإمامُ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (ت: 1420هـ) ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ ـ: ثبتَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حديثٍ طويلٍ: ((يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا ويُمْسِي كَافِرًا، ويُمْسِي مُؤْمِنًا ويُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ أَحَدُهُمْ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَاقَلِيلٍ)) ما المقصود بالكفر في الحديث؟ وكيف يكون بيع الدِّين؟([1])
وذلكَ بأنْ يتكلَّم بالكفر، أو يعمل به مِنْ أجل الدُّنيا، فيُصبح مؤمنًا، ويأتيه مَنْ يقول له: تسبَّ الله تسبَّ الرَّسول، تدع الصَّلاة، ونعطيك كذا وكذا، تستحلَّ الزِّنا، تستحلَّ الخمر، ونعطيك كذا وكذا، فيبيع دينه بعرض مِنَ الدُّنيا، ويُصبح كافرًا أو يُمسي كذلك،
أو يقولوا: لا تكن مع المؤمن، ونعطيك كذا وكذا، لتكون مع الكافرين، فيغريه بأنْ يكون مع الكافرين، وفي حزب الكافرين، وفي أنصارهم، حتَّى يُعطيه المال الكثير، فيكون وليًّا للكافرين وعدوًّا للمُؤمنين.
وأنواع الرِّدَّة كثيرةً جدًّا: وغالبًا ما يكون ذلك بسبب الدُّنيا، حبِّ الدُّنيا وإيثارها على الآخرة؛ لهَذَا قَالَ: (يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا)، وفي لفظٍ آخر: ((بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، هَلْ تُنْتظرونَ إلَّا فقرًا مُنسيًا أوْ غِنًى مُطغيًا، أوْ مَوْتًا مجهزًّا، أوْ مَرضًا مُفسدًا، أوْ هرمًا مفنّدًا، أو الدَّجال، فالدَّجال شرَّ غائبٌ يُنْتَظر، أو السَّاعة فالسَّاعة أدْهَى وأمرّ)) ([3]).
المؤمن يُبادر بالأعمال: يحذر قد يُبتلى بالموت العاجل، موت الفجاءة، قد يُبتلى بمرض يُفسد عليه قوَّته فلا يستطيع العمل، يُبتلى بهَرم، يُبتلى بأشياء أخرى، على الإنسان أنْ يغتنم: حياته، وصحَّته، وعقله، بالأعمال الصَّالحات، قبل أنْ يُحال بينه وبين ذلك، تارة: بأسباب يُبتلى بها، مِنْ مرضٍ وغيره، وتارة: بالطَّمع في الدُّنيا، وحبِّ الدُّنيا، وإيثارها على الآخرة، وتزيينها مِنْ أعداء الله، والدُّعاة إلى الكفر والضَّلال.اهـ.