هو رجل يحمل تاريخ النوبة وصكوك العودة وأسرار الاتفاقيات مع الحكومات والأنظمة ويخفى فى طيات تجاعيده قصصاً وروايات لم ترو من قبل عن النوبة القديمة وأزمات التهجير والعلاقة مع «عبدالناصر والسادات ومبارك»، حتى المجلس العسكرى ومحمد مرسى.
إنه الحاج «أبوالسعود»، أحد أعضاء لجنة متابعة الملف النوبى، الذى لم يهدر ثانية من وقتنا أو وقته دون معلومة جديدة عن القضية النوبية، وبالأخص التهجير وأزمة مساكن المغتربين التى اعترض عليها الكثير من النوبيين فى وادى كركر، نلتقى به ليلقى فى جعبتنا كل هذه الأسرار عبر السطور التالية.
البداية كانت من تقرير مجلس إدارة النادى النوبى الصادر فى يناير 1931 عن تعلية خزان أسوان، الذى استخرجه لنا «أبوالسعود» من مكتبة الوثائق النوبية الخاصة به ليقرأ علينا التقرير قائلاً: «كلما اقترب ميعاد تعلية خزان أسوان اهتزت قلوب النوبيين هلعاً من هول ما سيلحق ببلادهم من الغرق الذى لا يبقى ولا يذر، كما أنهم ينظرون إلى التعلية كما ينظرون إلى الطوفان الذى غمر الدنيا منذ آلاف السنين ويستعجلون الحكومة بإيجاد مستعمرات زراعية لهم شمال الخزان ليرحلوا إليها ويتخذوها موطناً لهم، واهتم النادى النوبى العام بمسألة تعلية الخزان جد الاهتمام منذ عام 1926، وهو العام الذى بدأ فيه المهندسون يتبادلون الآراء حول جدوى أى من المشروعين المطروحين، وهما إما تعلية خزان أسوان أو خزان جبل الأولياء.
وما إن انتهى الرجل من قراءة الأوراق الصفراء العتيقة التى طبعت منذ 1931 حتى انطلق قائلاً فى حماسة: «الحكومات لم يكن لديها حسن النية أثناء تعاملها مع النوبيين، وبعد الإصابات المتتالية لبلاد النوبة وهجرات أهاليها بعد بناء وتعلية الخزان استطعنا جميعاً فى كل قرى النوبة التكيف مع الأوضاع الجديدة، وبدأ أجدادنا وآباؤنا تعمير المناطق العالية التى نزحوا إليها بعد تعليات الخزان، حتى بدأنا نستمع إلى الأحاديث التى شاعت فى بلادنا عن بناء السد العالى، وقيل إن أبناء النوبيين هم من سيبنونه، والحق خدعنا «عبدالناصر» حين جعلنا جميعاً نرتاد المدارس الصناعية والمهنية بعد أن حصلنا على أعلى المجاميع فى المرحلة الإعدادية، وفى عام 1957 وعام 1958 وأقل مجموعات بين أبناء النوبة دخلوا الثانوية العامة.
وعاد الرجل إلى مكتبة الوثائق النوبية التى فتحها لنا، ليستخرج كتاباً ضخماً أعدته حكومة «عبدالناصر» عن عملية التهجير.
ظل الرجل يقلب الصفحات لينفجر فجأة فى غضب «التاريخ لا يكذب والوثائق لا تضلل أحداً. أتى إلينا (عبدالناصر) وقالها صراحة فى حديثه لأهالى النوبة فى أبوسمبل يناير 1960 كما هو موثق بالكتاب (إن الخير الذى سيعم على أبناء النوبة سيكون كثيراً، لأنه سيجمع شمل أبناء النوبة جميعاً على الأسس الصحيحة لبناء مجتمع قوى سليم».
إننا نعتقد أن عملية التهجير من هذا المكان ستكون عملية منظمة ومريحة ومركزة وستنقلون من هذه القرى التى عشتم فيها إلى مناطق جديدة تشعرون فيها بالسعادة والرخاء.
أغلق «أبوالسعود» الكتاب والتقط أنفاسه وهدأ من روعه ليضيف قائلاً: «فى 15 مايو 1964 تم تحويل مجرى النيل، وكانت عملية التهجير أقرب إلى طوفان نوح، بل وأسوأ، فالباخرة كانت تحمل النوبى وبهائمه وأثاثه لدرجة أن أكبر وفيات حدثت فى تاريخ النوبة حدثت أثناء وبعد التهجير فى عام 1964، وبعد أن تم إخلاء قرى النوبة القديمة فوجئنا بأن القرى الجديدة فى كوم أمبو لم تكتمل فألقت بنا حكومة (عبدالناصر) فى قرية الدكة رغم أنى أتبع قرية الدكة التى لم يكتمل بناؤها».
واجهنا الرجل بالتراث النوبى الذى أوضح مدى البهجة التى كان عليها النوبيون أثناء عملية التهجير.
فانفجر الرجل مرة أخرى وقلب صفحات الكتاب التوثيقى وهو يصرخ فينا «هذا ما قاله إعلام (عبدالناصر) وحاول إشاعته بين النوبيين حتى بدأوا يتغنون للجنة الخضراء فى كوم أمبو، لكننا وجدناها (جهنم حمراء)»، وتوقف الرجل أمام بعض السطور وبدأ يتلوها علينا قائلاً: «إنه فى 21 اكتوبر 1963 قال رئيس وزراء (عبدالناصر) إن أروع شىء فى رأيى ليس هو عملية التهجير على ماهى عليه من ضخامة، إنما هو ذلك البشر - السعادة - الذى أراه على وجوه الأهالى وفرحتهم بالموطن الجديد، ولقد أحسست بالأمل يملأ نفوسهم والبِشر يعلو وجوههم، وهذا يدل على وعى كبير.. يدل على ثقة المواطنين بالثورة، يدل على يقين أهل النوبة بأن الدولة سوف ترعاهم فى الموطن الجديد وتعطيهم حقهم ويزيد».
وأكد «أبوالسعود» أن الحكومة لم تنفذ ما وعدت به، فالأبنية بوادى كركر ملاصقة لبعضها البعض، والمساحات لم تكن 400 متر، كما أن قرى وادى كركر لا توجد بها أراض زراعية بالمخالفة لما تم الاتفاق عليه، وهذا ما نعتبره نحن استمراراً لمسلسل «الخوازيق» التى تضعها الدولة فى طريق النوبيين، ومن ثم تزعم أنها تحاول تعويض النوبيين وهم من يرفضون، وهو ما قامت به آلة الدولة الإعلامية خلال الأيام الماضية، ومنذ اليوم الأول من تسليم المنازل بوادى كركر بتصوير المشروع على أنه جنة الله فى الأرض، بينما هو جهنم حمراء.