امتداداً للحديث عن فن الكلام، وترسيخاً لمعنى الاتصال الإنساني، من خلال الحوار، الذي نفقد في غيابه كثيراً من الانسجام ما بين المتحدث والمستمع، يبقى هناك فرق بين الجدل والنقاش، فالنقاش المفترض أن ينحو إلى الحوار الصحي بين أكثر من طرف حول موضوع معين، أو أكثر، بغض النظر عن الاتفاق في وجهات النظر، ولكن كل ما يجمع تلك الأطراف في حوارهم هو محاولة الوصول إلى الحقيقة، أو قد لا يتعدى حتى كونه مجرد حوار في حد ذاته.
وإذا اصطلحنا أن الجدل قد يكون بين طرفين، أو أكثر، ويأخذ شكل الحدة والهجوم من طرف على آخر، لا من أجل محاولة البحث عن الحقيقة من خلال الموضوع، ولكن لإظهار رأي على آخر للبحث عن الذات.
وفي سياق الحديث، قد يأخذ الحديث بداية نية إيجابية بين المتحاورين للبحث عن حقيقة معينة، أو إضفاء معلومة قد تفيد المستمع، أو لعرض رأي محدد حول الموضوع الأساسي للمتحاورين.
هنا يكون سياق الحديث يسير في مساره الطبيعي، ولكن لا يلبث ذلك الصفو أن يتعكر، وتتحور تلك النيات الإيجابية إلى سوء الظن، بمجرد أن يفهم بعضهم أن المعارضة هي تحطيم لذاته، وانتقاص من رأيه، وامتهان لشخصيته، هنا يبدأ الحوار في أخذ منحى معاكسا تماماً عما كان عليه في الأصل، ويأخذ كل طرف جانب الدفاع عن الذات، فتتعالى الأصوات، وتزيد سرعة الرد، وتكثر المقاطعة، ويوجه النقد لشخص المتكلم، ويبدأ النقاش بالتحول إلى جدل لتحقيق تلك الذات المفرطة، وتضيع معها الحقيقة.
الجدال آفة.. والمجادل ظالم لنفسه، والخلاصة أننا في الجدال نبحث عن الذات، وفي النقاش نبحث عن الحقيقة التي نحن أحوج بأن نكتشفها، وقد تقف تلك الحقيقة وتضيع وراء الأصوات العالية!!