لعل اكثر ما يجتذب ذاكرة طفولتي القديمة -ولا زلت الطفل القديم- منظر والدي حين يحتسي قهوته السوداء وبيده كتاب الأمريكي روبنسون "القصة من الداخل" عن النفط السعودي ووزيره انذاك احمد زكي يماني !. كان ذلك المنظر وتلك اللحظات هي بداية تكوين شخصيتي الهادئة، الصامته كثيرا ، الممعنة في التفكير والذهاب بعيدا لعالم اخر لا يمت لي بصلة.
والدي بترولي قديم، يعشق ارامكو حد الثمالة بالرغم من تقاعده المبكر !
كثيرا ما كنت اراه يشرب القهوة السوداء مُّرّة ، في صباحات شتاءه الباكرة وليالي صيفه القصيرة. يغضب كثيرا في صمت ، ويقطب جبينه ويحدق بعينيه الواسعتين دائما، ولكن حين يشرب قهوته فلا تكاد تعرفه من شدة سروره وانتشاءه وبهجته !
لقد اصبحتُ مثله . جامد حد السكون ، وصامت حد الجمود. اكتفي بالنظر فيمن حولي ، وقراءة كتبي ، وسماع ما يروق لي. لكني خرجت من عباءة البترول ونفطه الأسود، الى العلوم الأكاديمية وفنونها وعالمها الأرحب. قد تكون قهوتي السوداء هي نفطي الذي اعشقه، كوالدي تماما.
في عمر الخامسة عشر كنت اشربها بعيدا عن الناس . اختلي بها كعاشق بحبيبته ، في محل قديم للقهوة الايطالية في بداية شارع محمد بن عبدالعزيز بالرياض . في ذلك الوقت كان هذا المحل خالي من الناس ،والكثير لا يعرفون ثقافة الكابتشينو والاسبريسو و قهوة الطليان. كنت الفت انتباه العامل حينما يراني اطلبها سوداء مُرَّة، وحين سألني ذات مرة كيف تستسيغها؟ اجبته بأني ضحية إدمان والدي !!!.
لقد اغلق هذا المحل وتم هدمه وذهبت معه ذكرياتي الحالمه وأيامي البريئة الوادعة.
لقد بالغ هذا الزمن في ماديته، وامعن الناس في سطحيتهم وسخافة اهتماماتهم، ورداءة عقولهم. أصبحتُ أرى الكثير قليلا ، والقليل منعدم. الناس في مجتمعي يستبدلون الذي هو "أردى" بالذي هو أدنى، حينما ذهب " الذي هو خير"!.
فنجان قهوتي أصبح أنيسي الدائم، ورفيقي في الحل والسفر. اذا سهرت وحدي مع كتابي كان ثالثنا. واذا سافرت وحيدا، كنت أنا والليل وطريقي الطويل وهو رابعنا. إنهاعلاقة قديمة ، يتجدد شبابها، فلا تزيدها الأيام إلا بهجة وجمالا. كثيرا ما حدثته عن احلامي صغيرا، ولازلت أحدثه عن الآمي كبيرا. لا زال يستمع بكل دفء وخجل، ويسقيني من نهره العذب الذي لا ينضب.
قهْوَةً ، لو سُقِيَتْها صخرة ٌ... أورقتْ بالزهر منها والطَّربْ
يجذبُ الرُّوحَ إليه روحُها ... ألطف الشيئين عندي ما انجذبْ
وُلِدَتْ بالشّيبِ في عنقودِها ... وهِيَ اليومَ عجوزٌ لم تشبْ
دفنوا اللذّةَ فيها حيّةً ... وأتى الدهرُ عليها وشرب
قتلتني وهي بي مقتولة ٌ ... صولة ُ الَميْتِ على الحيّ عجبْ !
لقد أصبحت قهوتي هي عطري المفضل، وأنفاسها أحبُّ إليّ من أنفاس أنثى في لحظة عشق. أما لونها الأسود، فهو أبيض عندي من قلوب الكثيرين في هذا الزمان !