لا أعلم كيف ستتعامل المؤسسات الأجنبية، ولاحقا الأفراد الأجانب، مع لائحة سلوكيات السوق المفسرة لنظام السوق المالية الصادر من هيئة السوق المالية، وهي اللائحة التي صدرت في عام 2004 وبقيت كما هي، بغموضها .. بقصورها .. بسوء إعدادها .. كشخص مهتم بالأسواق المالية، يوجد لدي عدد كبير من الملاحظات على هذه اللائحة التي تأتي كواحدة من أغرب اللوائح التنفيذية التي اطلعت عليها لكونها لا تتوسع في تفصيل مقاصد النظام، كما ينبغي في اللوائح التنفيذية، بل اكتفت في أكثر من مكان بإعادة صياغة بعض مواد النظام أو نقلها كما هي!
عندما تعلن الهيئة عن رفع دعوى ضد أحد المخالفين، وما يتبعه من تأييد من قبل لجنة الاستئناف لقرار لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية، فإن الذي يحصل أننا كمتابعين ومتداولين ومستثمرين لا نعلم شيئا عن طبيعة المخالفة ولا نوعها ولا إلى ما استندت الهيئة ولجانها في تعريف المخالفة. فهل سيعجّل دخول المؤسسات المالية الأجنبية في تعديل هذه اللائحة؟ وهل ستغير هيئة السوق في طريقة تعاطيها مع المخالفين؟
عندما تكتفي الهيئة في إعلانها عن معاقبة أحد "المخالفين" بأن مخالفته تخص المادة التاسعة والأربعين من نظام السوق المالية والمادتين الثانية والثالثة من لائحة سلوكيات السوق، يبقى الإعلان مجرد كلام عام لا يمكن المتعاملين من معرفة طبيعة الخطأ المرتكب، كي لا يقعوا فيه على أقل تقدير، ومن جهة أخرى يهمني شخصياً كمتخصص ومهتم بعمل الأسواق المالية وطرق التعامل بها، أن أطمئن إلى أن المخالفة حقيقية وليست ظنية، ولا أن الهيئة تعاقب على تصرفات تعتبر في الأعراف العالمية طبيعية، إن لم تكن روتينية!
تنص المادة 49 من نظام السوق المالية على الأعمال التي تعد مخالفة للنظام، وهي "قيام شخص بالعمل عمداً أو المشاركة في إجراء يوجد انطباعاً غير صحيح أو مضلل بشأن السوق أو الأسعار أو قيمة الأوراق المالية بقصد التضليل، أو لحث الآخرين على الشراء أو البيع". وتُركت للائحة التنفيذية مسألة تفصيل القواعد التي تحدد الأعمال والتصرفات التي تعتبر مخالفة، والأعمال والممارسات المستثناة من ذلك. الحقيقة أن اللائحة لم تفصل في ذلك أبدا، بل قامت بإعادة النصوص كما هي في النظام، منها على سبيل المثال ما يخص الأعمال والتصرفات المحظورة: ''القيام بعقد صفقات في أوراق مالية لا تنطوي على انتقال حقيقي لملكية تلك الأوراق المالية''. لا أعتقد أن المؤسسات المالية الأجنبية ستفهم المقصود من "الانتقال الحقيقي للملكية"، ولا ما يقصد بالتداول "الوهمي"، ولا ما يقصد بالفقرة المتعلقة بـ "إدخال أمر شراء مع العلم المسبق بأن هناك أمر بيع مشابها من حيث الحجم والسعر والتوقيت مدخلا من طرف آخر". هذه جمل فضفاضة يجب ألا تأتي في سياق نصوص قانونية تنتج عنها مخالفات مالية كبيرة وربما حتى السَجن في بعض الحالات.
أما في الحالات الاستثنائية التي نجد فيها بعض الإضافات في اللائحة التنفيذية، نجد أنه تمت إضافة نصوص أكثر غموضاً مما هو في النظام نفسه، حيث أضافت اللائحة أنواعا أخرى تدخل في الأعمال والتصرفات التي تعد من أنواع التلاعب أو التضليل، فجعلت ''شراء أو تقديم عروض لشراء ورقة مالية بأسعار تتزايد بشكل متتابع، أو بنمط من الأسعار متتابعة التزايد'' يعد مخالفا للنظام. مرة أخرى، لن يفهم المتداول الدولي ما الخطأ في قيام شخص بشراء أسهم بسعر السوق ومواصلة شرائها على الرغم من كون أسعارها تتزايد! هل شراء السهم بسعر 30 ريالا ومن ثم شراء المزيد بسعر 30.25 ريال والمزيد بسعر 30.50 ريال فيه شيء من التضليل؟ أليس ذلك أمرا طبيعيا لمن يدخل أمر شراء بسعر السوق في سهمٍ منخفض السيولة؟ هل تمت المعاقبة من قبل الهيئة لأشخاص قاموا بمثل هذه التصرفات التي تبدو طبيعية وعادية جدا؟ ثم كيف لأي شخص أن يفهم معنى المادة التالية: ''إدخال أمر أو سلسلة من الأوامر على ورقة مالية دون وجود نية لتنفيذها''! أي متداول في السوق يعلم أن إدخال أمر شراء أو أمر بيع لا علاقة له بالنية، وأن الأمر سينفّذ إن وصل إليه سعر السوق، شاء صاحبه أم أبى؟
لماذا لا تقوم الهيئة بتوضيح طبيعة المخالفة؟
أعتقد أنه من حق المتعاملين بالسوق معرفة جميع التصرفات المحظورة التي تعتبرها الهيئة مخالفة للنظام، وغير صحيح أن إيضاح ذلك قد يسهم في التعريف بطرق الاحتيال والتضليل، ولا أعتقد أن سوق الأسهم بهذه الهشاشة والضعف ما يجعل التلاعب بها يتم بيسر وسهولة. إذاً هل عدم إيضاح الهيئة لطبيعة المخالفات ناجم عن عدم وجود أسس حقيقية ومنطقية وملموسة يمكن الحديث عنها ونشرها بكل شفافية ووضوح؟ إن كان هذا هو الواقع فنحن أمام كارثة قانونية ليس لها مثيل، يمكننا تشبيه ذلك بشوارع لا يوجد فيها نظام للمرور، ترك تقدير المخالفة لرجل المرور ولجنة غير مختصة داخل جهاز المرور تقرر حسبما تراه، ومن ثم ترفع بما تتوصل إليه إلى لجنة استئناف أيضا داخل جهاز المرور للمباركة على قراراتها.
هل العقوبة المالية عادلة؟
إن تجاوزنا الخلل في اللائحة التنفيذية وطريقة الضبط والمقاضاة، سنصطدم بواقع آخر مرير، وهو أن رسوم العقوبة المالية تستقطع من "المخالف" وتودع في حساب الهيئة، بتجاهل تام لمن وقع عليهم الضرر من المتعاملين. بمعنى أنه حتى إن كانت هناك مخالفة حقيقية، فمن المفترض أن يتم تعويض من أضرت بهم تصرفات المخالف بدلاً من جعل المخالفة مجرد مصدر تمويل للهيئة. أما إن لم يكن هناك أحد متضرر من المخالفة، فلماذا إذاً نعتبرها مخالفة؟ الحقيقة أن أكثر المخالفات المدرة ماليا للهيئة هي تلك التي تخص الشركات، التي للأسف نرى نتيجتها معاقبة الشركة (أي المساهمين)، مع أن المتسبب في المخالفة إدارة الشركة، والمستفيدة مالياً هي هيئة السوق. الأمر الغامض الآخر يخص مبلغ المخالفة الذي تفرضه الهيئة على المخالف، حيث إنه عبارة عن "المكاسب" التي حققها المخالف، ما يعني أنه باعتقاد الهيئة أن المخالفة واضحة ودقيقة وصريحة بشكل قاطع يجعل من السهولة بمكان معرفة الأثر المالي لها بدقة، ومن ثم استرجاع المبلغ من المخالف. بحكم أننا لا نعلم ما هي المخالفات، فمن الصعب الحكم على صحة استنتاجات الهيئة، إلا أنني أعتقد أنه لا توجد مخالفة سلوكية يمكن معرفة تأثيراتها المالية بالشكل الدقيق الذي تزعمه الهيئة.
أجزم أن معظم المتعاملين في السوق يؤيدون توجه هيئة السوق نحو ضبط سلوكيات المتعاملين ورفع مستوى العدالة والشفافية في السوق، ولكن يجب ألا يتم ذلك بطرق عشوائية أو غامضة، وأن تكون الشفافية العنوان الأبرز لجميع أعمال الهيئة.