عباد الله : لقد جاءت مُصَنَّفاتٌ كثيرةٌ عن آداب الخلاف ، وكيف نختلف ، وعن صفاء القلوب ، وعدمِ التهاجر والتقاطع ، فلْنستمع إلى قصَّةٍ لَخَّصت ذلك كلَّه ، وهي رسالةٌ إلى كلِّ مُتخاصِمَينْ ومُتهاجِرَيْن ، رسالةٌ إلى من بدَرتْ منه زلَّةٌ في حقِّ أخيه المسلم ، فإذا لم تُؤثر فيه هذه القصةُ العظيمة ، فما الذي سيُؤثر فيه ؟! أخرج البخاري وغيرُه ؛ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- قَالَ : " كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رضي الله عنهما - مُحَاوَرَةٌ ، أي كلامٌ وجدال ، فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا، فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ ".
رضي الله عن أصحاب محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وجمعنا بهم في جنات النعيم . فهذان الصحابيان الجليلان ، وهما أفضلُ الناس بعد النبيِّين والْمُرسلين ، يَحدُث بينهما من الخلاف وسوءِ التفاهُم ، بل والغضبِ وإغلاقِ الباب في وجه صاحبه ، كما يحدث من جميع الناس، والذي يُميِّزُهم عن جميع الناس ، أنَّ هذا الخلاف الشديدَ لا يدوم طويلًا ، ولا يُحدث فُرقةً وعداوة ، بل لا يزيدُهما ذلك إلا محبَّةً وأُلفةً وصلة . فهذا الصِّدِّيقُ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه -، يَطلبُ من الفاروق أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ ويُسامحه ، فَلَمْ يَفْعَلْ ذلك ، بل وأَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ . فما موقفك -أيها الْمُؤمن- لو فُعل بك ذلك ، ما موقفك لو واجهكَ أخوك أو صديقُك بمثل هذا ؟ربما ستقطعه وتكرهه ، ولو اعتذر إليك بعدها وتأسَّف ، فلن تقبل عذره وأسفه إلا أنْ يشاء الله ، ولو قبِلْتَ عذره ؛ لبقي في قلبك مَوجِدةٌ ، وحَنَقٌ عليه . انظروا ماذا حصل بينهما بعد ذلك ، فحينما رأى أبو بكرٍ من عمر -رضي الله عنهما- هذا الردّ أصبح مهموماً حزيناً ، وكأن الجبال على عاتقَيْه ، أتدرون لماذا ؟ ليس لما لاقاه من جفاء عمر ، بل خوفاً أنْ يكون قد آذاه ، أو بَدَرَ منه شيءٌ أساء إلى صديقه ، فما كان منه إلا أنْ أَقْبَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ ، من شدَّةِ الهمّ والغمّ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ" أَيْ خَاصَمَ، فَجاء وسَلَّمَ ثم قَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الخطَّابِ شَيْءٌ ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ، فَقَالَ : "يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ" ثَلاَثًا. فما كان من عُمَرَ الفاروق، إلا أنْ نَدِمَ على فعله، وأحسّ بحرقةٍ تجاه تصرُّفه . فلا إله إلا الله، أين من يتكلَّمُ على صديقه أو أخيه، بكلامٍ أو فعلٍ سيِّءٍ، أين مَن يُغضب صاحبه ويُكدِّر خاطره ، ثم يَمضي على وجهه كأنَّ شيئاً لم يكن ، لا يسأله مغفرةً وعفواً ، أو يستسْمحُه ويُطيِّبُ خاطره . فهذا هو الكِبْرُ بعينه ، يعتقد أنَّه إذا اعتذر أو طلبَ الْمُسامحة سيقلُّ قدرُه ، وتسقُطُ هيبته ، وهو لا يعلم أنه بعدم اعتذاره سيقلُّ قدره عند الله - تعالى-، وسيمقته الناس جميعاً. فعندما ندم عمرُ -رضي الله عنه- أَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ مهموماً فَسَأَلَ : أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ ؟ فَقَالُوا: لاَ، فازداد همًّا وغمًّا، فما كان منه إلا أنْ توجّه إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مهمومًا حزينًا، فَسَلَّمَ عليه، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَمَعَّرُ، أي يتغيَّر من الغضب والحنق، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ على عمرَ -رضي الله عنهما-، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ، وقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ ، وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ ، بدأ يُدافع ويُحاجج عنه ، بل ويحلف بالله أنه كان أظلم ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْت، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُون لِي صَاحِبِي ؟" قال : فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا. ما أعظم قلوب الصحابةِ -رضي الله عنهم-، وسرعةَ عفوهم ومُسامحتهم للمخطئ، مهما بلَغَ وعظُمَ الخطأ، فالصِّدِّيقُ قبِل اعتذار الفاروقِ - رضي الله عنهم -، بل وجعل يُدافع ويُنافح عنه. فما أجمل أنْ نعفوَ عن الآخرين ، وأنْ نقبل عذر من اعتذر إلينا، وأنْ نُسامح من طلب المسامحة منا، وكلَّما عفا العبدُ رفع الله قدره ، وضاعف أجره ، قَالَ صلى الله عليه وسلم : "وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا"[ رواه مسلم ].والمعنى: أنَّ الله -تعالى-، لا يزيد العبدَ إذا عفا وتسامح ، إِلَّا عِزًّا ورفعةً في الدنيا والآخرة. وصدق الله -تعالى-: ( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) [فصلت: 34- 35]. إنَّ هذا الحظ العظيم، لا يستحقُّه إلا مَن علم الله صدقه ، وإيثارَ مرضاةِ الله على مرضاةِ نفسه.اللهم ارض عن أبي بكرٍ وعمرَ ، واجمعنا بهما في جنات النعيم ، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب .