في طريق مواصلاتي المعتاد كنت أرى مشهداً يلفت الانتباه!
رجل فقير يقف في مطعم متواضع صغير.
هذا الرجل يقف خاليا لا يشترى منه أحد!!
هذا المشهد غريب.. فالمنطقة مزدحمة بالمشترين ولا يوجد مطعم مجاور.
أشفقت على هذا الرجل آخذا ً في نفسي على الناس؛ لماذا لا يشجعونه بالشراء منه وهو تبدو عليه الحاجة والمسكنة؟
في يوم اضطرني القدر إلى الوجود في هذا المكان فقلت:
هي فرصة لأشترى احتياجاتي منه من باب المساعدة.
وفعلا فعلتها واشتريت، وفرحت بذلك، ثم مضيت إلى بيتي.
وهناك ما إن فتحت الطعام حتى سارعت فألقيته كله! سامحك الله يا أخي هل هذا جزائي؟.. أي والله.
طعامه الفاسد جعلني أعيد شريط الموقف على ذاكرتي فتأكدت أنه كان يعلم بفساد ما باعه لي.. الله يسامحه.
تذكرت أنني رأيت ملابسه القذرة فاشمأززت.. ثم أنني عندما رأيت أظافره ترددت في الانصراف تاركا الثمن في يده.. لكنى استحييت.. ثم رأيت الكوب والأدوات التي يستخدمها فقلت هي مرة ولن تعود.. لكنها ثمن السر الذي وصلت إليه في عزوف الناس عنه؛ عندهم حق والله.. الله يهديه.
بعد فترة مررت من هذا المكان فرأيت هذا المحل مغلقاً واختفى الرجل بهيئته إياها فلم أجد في نفسي إشفاقا عليه خصوصا بعدما تساءلت مع نفسي:
ألم يكن من حقه أن أذهب إليه وأنصحه؟
كان يمكن أن أتوجه إليه لأنصحه ولكنى تذكرت أسلوبه فتوقعت جوابه القامع.
سامحه الله.. لقد سد على نفسه باب الرزق كما سد باب النصيحة؛ فكانت هذه هي النهاية الطبيعية.. والجزاء العادل.
فما الذي كان عليه لو قص أظافره؟! أو حتى لو أخرج ما بها من قذارة؟
ماذا عليه لو غسل ملابسه؟!
ناهيك عن هذا وذاك ماذا كان سيخسر لو أجابني بأسلوب مقبول مثل الناس عندما سألته عن شيء؟!!
عندما وجدت في نفسي من هذا الرجل الذي أساء إلىّ..جلست أتأمل قليلا ثم أفقت وفى خواطري منه هدية عظيمة.. بل هديته ليست لي وحدي وإنما للقراء الأعزاء وهى فكرة هذا المقال.
فالآن نتساءل سويًا:
الأرزاق بيد الله هذه قاعدة أجمع عليها الناس لما يدل عليها من أدلة سواء من القرآن والسنة أو من الواقع نفسه ولكن:
هل هناك أسباب تطرد الرزق؟
هل يمكن أن يجتهد الإنسان ويتعب في البحث عن الرزق وهو في نفس الوقت يطرد الرزق عنه ويسد طريق الرزق إليه؟
هل يمكن أن يفتح الله للعبد بابًا للرزق ولكنه يسيء استخدامه فلا يدخل عليه منه شيء؟ هذا هو موضوعنا.
ومادام هذا سؤال وجيه فلنرجع به إلى القرآن فلابد أنه تناوله مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ.
نتذكر شيئا فشيئا.. فإذا بسؤالنا هذا موضوع هام فصل فيه القرآن بأكثر من أسلوب.. فبالقصص جميل عالجه أكثر من مرة!
فهؤلاء هم أصحاب حديقة الفاكهة في سورة القلم:
منعوا صدقتها فحرمهم الله منها إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ* وَلَا يَسْتَثْنُونَ.. أي سيجنون أو يقطعون ثمارهم ولا يتركوا شيئا ً للفقراء كما كان يفعل والدهم فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ أي فنزل عليها بلاء من ربك فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فصارت كالشيء المحترق!
إذاً كانوا هم السبب.
وهذا هو صاحب الجنتين في سورة الكهف تكبر على صاحبه فقال أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وما وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً فحرمه الله من البستانين فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا.
وهذه القرية التي أنعم الله عليها بسهولة الرزق وسعته فهو يأتيها من كل مكان لكنها كفرت بأنعم الله:
وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فماذا كان الجزاء فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ أي حرمت نفسها بفعلها.. وهو رد الفعل الغير سوى على هذا الإنعام وهو الكفر.
إن القرآن يؤكد تجارب الحياة التي تكرر الدروس الصعبة للإنسان لتعلمه أنه بيده يمكن أن يقطع رزقه ويحجبه.. فيمنع وصوله إليه ابتداء أو يسلبه منه بعد تحصيله.
ومما يقرره بأسلوب آخر أن التعامل بالربا يمحق الرزق يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل فيه وقد روى ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قِل النسفى.
والمتدينون لا يحتاجون إلى الموعظة في ترك الربا.. ولكن أكثر الإخوة يحتاجون إلى معرفة أنواع المعاملات والمشاركات المالية العصرية التي يدخل فيها الربا.. أو على الأقل يحتاجون إلى الاستفتاء قبل الدخول في أي معاملات مالية فكثير منها ظاهره السلامة باطنه الربا.
والأسباب التي يطرد بها الإنسان الرزق عن بابه أو يخرجه بها من بيته كثيرة:
أولها سوء الخلق:- فقد ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة فلم يترك لسوء الخلق وصاحبه إلا الخسارة.
وأول الأخلاق طردًا للرزق كما رأينا هو الكبر.. لماذا؟
لأن الكبر خلق في القلب ولكنه يتسرب أو يرشح على الأعضاء فيتأذى منه الناس.
الكبر غاز طارد للبشر ينتشر من المتكبر وهو لا يشعر.
وقد قضى الله أن يجعل الناس سببًا في حصول الأرزاق بالمعاملة.
الكبر رسالة من البائع معناها: "لا تأت مرة أخرى".. "لا تكرر زيارتك".
الكبر حاجز بين الناس وبعضها.. حاجز معنوي، ومادي أيضا.. حاجز بين القلوب والأرواح وبعضها وبين أموال الناس كذلك وبعضها.
الكبر يقصر عمر التاجر في السوق.
الكبر يفقد الإنسان عقله.. ففي قول بعض السلف: "ما دخل قلب إنسان من كبر إلا نقص من عقله بقدره".. ومن هنا تصرف بما يضره لاما ينفعه.
ثاني الأخلاق السيئة طرداً للرزق سوء المعاملة:- بالجفاء والفظاظة.. فقد ذهب الرفق بالربح ما كان الرفق في شيء إلا زانه.. وما انتزع من شيء إلا شانه وإن الله ليعطى على الرفق مالا يعطى على غيره والرزق ما يعطيه الله تعالى مكافأة على الرفق.
البعض يتصور أن من حقه أن يعامل الناس كما يشاء وكما تستريح نفسه لا كما أمر الله ورسوله ولا الأخلاق ولا العرف!! والناس يجيبون مثل هؤلاء بالعمل.. فلا مانع يا سيدي ولكن تحمل النتائج.. تحمل هجر الناس لك ولمعاملتك، وانفضاضهم عنك، وتحمل دوران الأيام عليــــك..!!
لو تذكرنا جميعا سنجد في ذاكرتنا عددا من الذين أساءوا للناس فأمهلهم الله مدة من الزمن ثم دارت الأيام فلم يبق أحد يعاملهم إلا أنفسهم.. يتشاجرون معها !
ومنها قسوة القلب وعدم الرحمة والسماحة:- رحم الله رجلا سمحاً إذا باع سمحاً اذا اشترى سمحاً إذا اقتضى فإذا رحم الناس رحمه الله.. أما إذا لم يرحم فمن لا يَرحم لا يُرحم والرزق من رحمة الله.
ومن عجائب ما تجازى به الأقدار أهلها؛ أنك ترى بائعا فظاً سيء الخلق.. ولكن الناس مضطرة للشراء منه وصاحبنا يدرك اضطرارهم فيستعبدهم بسوء خلقه ويبتزهم بجشعه مستغلا ضرورتهم في غرور وصلف في غفلة عن سنن الله في الحياة.
مثل هذا تاجر غبي بكل بساطة.. وهذا حكم بتجارب الواقع.. فما إن يفتتح محل مشابه ولو قريبًا منه حتى يهرع الناس إليه ويحمدون ربهم على هذا الفرج شامتين في الظالم عندما يرونه خاويا يهش الذباب.
والكذب من أسوأ أسباب طرد الرزق:- فالكذب يحرم التاجر من البركة بنص حديث الرسول صلى الله عله وسلم عن المتبايعين: "فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما".
ومن الغباء أن يظن التاجر أنه سيكذب على الناس سنوات وسنوات ولا يكتشفون كذبه !! فهو بالتأكيد سينسى.. وفى المثل:
ومن أسوأ الأخلاق التي تحجب الرزق الحسد:- ومشكلة الحسد أنه يتحكم في صاحبه ويدفعه ويوجهه إلى اختيار بدائل واتخاذ قرارات من أجل تقليد المحسود فقط.. وليست لها جدوى أو فائدة.
نار الحسد تأكل عقل الحاسد قبل قلبه فلا تترك له تفكيرًا سويا ً في مصلحته.
وكل ما سبق هي أنواع من المعاصي.
ولذا فمن أهم أسباب الحرمان من الرزق المعاصي:- فإن المعصية عموما تحرم العبد الرزق وفى الحديث الذي يكرره ابن القيم كثيرًا إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه وهو من قوله تعالى وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ.
ومنها الكسل:- لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه صباح مساء.
ومنها ضعف الصبر:- والتحمل ما أعطى عبد عطاء خيرا ولا أوسع من الصبر والفرق بين الكسل وعدم التحمل أن الأول يمنع من بدء العمل.. والثاني يمنع من الاستمرار فيه.
ومما يطرد الرزق القذارة: - وعدم مراعاة النظافة سواء النظافة الشخصية أو في المكان والملبس والأدوات خصوصا في الأطعمة.
البعض يكتفي بدرجة النظافة التي تعود عليها هو مع أن الناس تختلف فالصحيح أن يعرف التاجر درجة النظافة التي يحبها جمهوره ويهتم بها.
وقد يكون التاجر نظيفاً حسن الخلق جدًا.. ويهتم بكل شيء ولكنه لا يهتم بمتابعة عماله في تفاصيل النظافة، أو يعمل معه عامل جديد فلا يفهمه ويدربه على مراعاة النظافة وخصوصا عاداته الشخصية.
عجبت من اهتمام صاحبه معرض مخبوزات بارتداء البائعين للقفازات أثناء التعبئة لكن كان هذا أحد الأسباب في ازدحام الناس عليه.
ومن أهم ما يفتح أبواب الرزق أو يغلقها أسرار بين العبد وربه:-
قال لي رجل ثرى: أنا أحب العمل رغم كبر سني، واستغنائي؛ وعيالي يلحون على بالراحة فأرفض.. لماذا؟
لأن في هذا العمل رسائل عملية وأسرار أتلقاها من الله تعالى .
قلت: أعطنا مثالا ً.
قال : في بداية تجارتي في اللبن كنت أعود بلا رزق؛ فكنت أصلى الفجر وأبكى لله تعالى حتى فرجها عليَّ.. ثم فتح عليَّ فأدركت أنها رسالة أن الرزق بيدي ليس بذكائك.
قال: وسألني شاب فقير عن عمل فقبلته مراعاة لظروفه رغم عدم احتياجي لعمال؛ فإذا بناتج الجبن يزيد! واستمر على الزيادة الجديدة إلى أن رحل هذا الشاب فعاد الناتج كما كان فعلمت أنها رسالة من الله.
والتجارة مليئة بالأسرار والرسائل بين الرب سبحانه وعبده:
فقد حكي أن رجلا كانت له بقرة يخلط لبنها بالماء ويبيعه فجاء سيل فأغرق البقرة.
فقال بعض أولاده: إن تلك المياه المتفرقة التي صببناها في اللبن اجتمعت دفعة واحدة وأغرقت البقرة.
وحكي أن محمد بن سيرين تراكمت عليه ديون كثيرة فأصابه غمٌ شديد ثم قال: إني لأعرف هذا الغم.. هذا بذنب أصبته منذ أربعين سنة.
قال رجل: اشتريت مرة أشياء كثيرة ثم خرجت من السوق أتصبب عرقا فإذا بسيارة أجرة تقف أمامي فسارعت وألقيت أحمالي وركبت، فلما وصلنا أصر السائق على أجرة زائدة عن المعتاد فدفعتها جبراً، ثم وقفت أفكر:
من أين تسلط على هذا السائق الجبار؟.. بل لماذا ركبت سيارة أجرة على غير عادتي؟.. فسيارات النقل الجماعي أرخص؟
أخيرًا تأكدت أن هذه الزيادة أتى دفعتها كرها لمن أكره هو المبلغ هو الذي نجحت في إنقاصه من الباعة بكثرة المساومة تخيل؟؟!!
تخيل أنني اجتهدت في مساومة صغار الباعة المساكين.. وفى النهاية وفرت بسيف الحياء جنيهاً أو اثنين ممن يستحقون فسلط الله من أخذها عنوة بسيف القهر.
وقال آخر: ركبت سيارة سفر ثم جاء سائق سيارة أخرى فتشاجر مع سائقنا وأجبره على إنزال الركاب ليسافر بنا هو لأنه يزعم أن الدور من حقه، ثم انطلق وإذا بنا في الطريق نجد كميناً من شرطة المرور أوقفوه، و سحبوا رخصه، وغرموه، وتعطلنا.
وبينما هم مشغولون به إذ مرت السيارة صاحبة الحق فلم ينتبهوا لها.. فانطلقت ونحن مازلنا متحيرين!!
بعدها تكلمنا في السيارة عن القهر والجبروت الذي عاملوه به.
فقال: بيني وبينكم لم يكن هذا دوري.. ولكنى ظلمت زميلي وبغيت عليه.
للرزق أسبابه وأبوبه كما أن للحرمان من الرزق أسبابه ومغاليق لأبوابه
المواضيع المتشابهه 
كيف نغلق أبواب الرزق على أنفسنا!!؟؟ 
العرض الشجري
